في عالم تتلاشى فيه الحدود الثقافية رغم ازدياد وضوحها السياسي، تبرز قصص نجاح ملهمة لشخصيات استطاعت أن تحول التحديات إلى فرص، وتجعل من الاختلاف جسراً للتواصل بين الحضارات. واحدة من هذه القصص الاستثنائية هي قصة الشاعرة فائزة عبد الله سلطان، المرأة التي انطلقت من مدينة أربيل العريقة، حاملةً معها إرثاً ثقافياً غنياً وحلماً كبيراً، لتصبح اليوم واحدة من النساء الرائدات في عالم الترجمة والأدب على المستوى العالمي.
وُلدت فائزة في أربيل، تلك المدينة التاريخية التي تعاقبت عليها الحضارات والثقافات المتنوعة عبر العصور. وفي هذه البيئة الغنية بالتنوع الثقافي والعرقي، نشأت فائزة لأب عربي وأم كوردية، ما منحها فهماً عميقاً لتعددية الهويات واللغات منذ نعومة أظفارها. تقول فائزة في حديث خاص لـ«كوردستان بالعربي»: «تعلمت من أربيل بتنوعها الثقافي أن الاختلاف مصدر ثراء وليس سبباً للصراع. كانت بمثابة المختبر الأول الذي اكتشفت فيه جمالية تلاقي اللغات والثقافات».
أكملت فائزة دراستها الجامعية في كلية التربية بجامعة الموصل، متخصصة في اللغة الإنكليزية عام 1994. ولم تكن مجرد طالبة متفوقة، بل كانت أيضاً لاعبة كرة سلة وطائرة في فريق الجامعة، وممثلة مسرحية حاصلة على جائزة أفضل ممثلة.
الهجرة.. تحويل المحنة إلى منحة
في عام 1996، أجبرتها الظروف السياسية القاسية في العراق على ترك بلدها والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ووصلت إلى أرض الأحلام وهي لا تملك سوى 20 دولاراً، لتبدأ رحلة كفاح استثنائية ستغير مسار حياتها بالكامل.
«عندما وصلت إلى أمريكا، كنت أعلم أنني جئت بأغلى ما أملك: لغتي وثقافتي وإرادتي للنجاح. المال يمكن أن يأتي ويذهب، لكن ما كان يعيش بداخلي هو الثروة الحقيقية التي لا يمكن لأحد أن يسرقها مني»، تستذكر فائزة تلك اللحظات الصعبة.
رغم التحديات الهائلة التي واجهتها كلاجئة في بلد جديد، لم تستسلم فائزة أبداً. واصلت مسيرتها التعليمية بشكل موازٍ لكفاحها المهني، فحصلت على درجة الماجستير في إدارة الأعمال بمرتبة الشرف من جامعة «سيتي يونيفرسيتي أوف سياتل» تخصص الإدارة والقيادة، ثم أكملت دبلوماً تخصصياً في الاستراتيجية من جامعة هارفارد المرموقة.
ريادة أعمال وصرح لغوي
من لاجئة وصلت بحلم بسيط، استطاعت فائزة سلطان أن تبني إمبراطورية في عالم الترجمة والتوطين والنشر. أسست شركة (Translation4all Inc.)، وهي شركة متخصصة في تقديم خدمات الترجمة العالية الجودة. كما أسست دار صافي للنشر والتوزيع (DARSAFI, LLC)، التي تُعنى بنشر الأعمال الأدبية والثقافية.
لم يقف طموح فائزة عند هذا الحد، بل شغلت منصب المديرة الأقدم لمراقبة جودة الترجمة الآلية في شركة أمازون العالمية، حيث ساهمت في تطوير أدوات وتقنيات لغوية متقدمة. وتولت تأسيس وقيادة قسم اللغة العربية في جمعية المترجمين الأمريكية (ATA)، ورئاسة منظمة (NOTIS)، وهي فرع من فروع جمعية المترجمين الأمريكية.
وفي سبتمبر 2022، تصدرت صورة فائزة سلطان غلاف مجلة «مالتيلينغوال» الأمريكية المرموقة، لتروي قصة نجاحها كنموذج ملهم للحلم الأمريكي.
اللغة جسر بين الثقافات والشعوب
فائزة سلطان ليست مجرد مترجمة محترفة، بل هي أيضاً شاعرة صدر لها عدة دواوين شعرية ومؤلفات باللغتين العربية والإنكليزية، منها: «لنمنح الحرب فرصة» (2013)، و«أنا ضيفة على هذه الأرض» (2015)، و«تتقطر الكلمات من أناملي» باللغة الإنكليزية.
ولم تكتف الشاعرة بالكتابة، بل قامت بترجمة أعمال أدبية مهمة، مثل ديوان الشاعرة أمل جمال «حدث في مثل هذا البيت»، وديوان الشاعر أسامة سليمان «قهوة الحرب» إلى اللغة الإنكليزية، مساهمة بذلك في نشر الأدب العربي في الثقافة الغربية.
تم اختيار فائزة ضمن «أفضل الشعراء المستجدين في ولاية كاليفورنيا لعام 2019»، وتُرجمت أعمالها الأدبية إلى لغات عدة منها الكوردية والإنكليزية والإسبانية والأمازيغية والفرنسية والفارسية، مما يعكس الاهتمام العالمي بإنتاجها الأدبي. ومن أبرز وآخر هذه الترجمات، ترجمة مجموعتها الشعرية «أنا ضيفة على هذه الأرض» إلى اللغة الكوردية من قبل كاتب هذه السطور. وقد لاقت الترجمة ترحيباً واسعاً واستقبالاً حاراً في مدينتها الأم أربيل، مما يؤكد تأثيرها الثقافي المتزايد.
«أؤمن بأن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي وسيلة لتعزيز التفاهم بين الشعوب والثقافات»، تقول فائزة، وتضيف أن «اللغة لديها قوة روحية وفنية، وهي يمكن أن تكون أداة قوية لتحقيق الذات والتعبير عن الأفكار، ولكن أيضاً لبناء الجسور بين الثقافات المختلفة»
حضور عالمي وسفيرة للثقافة
تميزت فائزة سلطان بحضور عالمي لافت من خلال مشاركاتها في العديد من المهرجانات الشعرية والأدبية الدولية، منها مهرجان الشعر العالمي في الإكوادور (2016)، ومهرجان الشعر العالمي في السلفادور (2017)، ويوم الشعر العالمي في اليونيسكو بباريس (2018)، والمهرجان الأمريكي - الكندي للشعر (2018)، ومؤخراً مهرجان الشعر العالمي في بورتوريكو (2024).
تحولت من لاجئة تبحث عن ملاذ آمن إلى سفيرة غير رسمية، حيث ألقت محاضرات مهمة في مكتبة الكونغرس الأمريكية حول أهمية نشر الثقافة العربية من خلال ترجمة الكتب. والكلمة الرئيسية في المؤتمر العالمي للترجمة والتوطين في الولايات المتحدة، كما حاضرت في جامعة العين بالإمارات العربية المتحدة ضمن مؤتمر الترجمة العالمي.
إرث إنساني وإلهام للأجيال القادمة
قصة فائزة سلطان شهادة حية على قوة الإرادة والإصرار والإيمان بالذات. من لاجئة لا تملك سوى 20 دولاراً حين وصولها الى المهجر، إلى امرأة استطاعت بناء مؤسسة لغوية وشاركت في محافل ثقافية عالمية، مروراً بكل التحديات والصعاب التي واجهتها في طريقها.
«أنا أؤمن بأن كل شخص لديه القدرة على تحقيق أحلامه، لكن المهم هو ألا تفقد الأمل وأن تستمر في المحاولة، بغض النظر عن الصعوبات التي تواجهها»، هذه هي الرسالة التي تحرص فائزة على إيصالها للأجيال الشابة، خاصة أولئك الذين يمرون بظروف صعبة مشابهة لما مرت به.
أن تنجح وتعين الآخرين على النجاح
فائزة سلطان ليست مجرد اسم في عالم الترجمة والأدب، بل يمكننا أن نعتبرها رمزاً للإصرار والتمسك بالجذور الثقافية والإيمان بقوة اللغة كأداة للتمكين والتغيير. رحلتها من ظلال قلعة أربيل العريقة إلى أضواء النجاح العالمي، تؤكد أن الأحلام الكبيرة يمكن أن تتحقق، حتى في أصعب الظروف، وأن اللغة والثقافة ليستا مجرد هوية، بل هما جسر للتواصل الإنساني وأداة للتغيير الإيجابي في العالم.
تقيم فائزة سلطان حالياً في ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، مستمرة في رسالتها الإنسانية والثقافية، ومؤمنة بأن النجاح الحقيقي ليس في الوصول إلى القمة فحسب، بل في مد يد العون للآخرين للوصول إليها.
في كل مرة تروي فيها فائزة قصتها، تؤكد أنها لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه «لولا إيماني بأن الصعاب ليست سوى اختبارات لصقل الشخصية وتقويتها.. نحن لا نختار دائماً ظروفنا وأقدارنا، لكننا نختار كيف نتعامل معها ونحولها إلى فرص للنجاح والإبداع».
إسماعيل خالد گلالي: مترجم وشاعر