على ضفاف بحيرة وان (Wan) الهادئة في قلب كوردستان تركيا، حيث تتلاقى مياه البحيرة مع ألوان السماء الداكنة، نشأت واحدة من أروع القصص التي عُرفت في التاريخ. قصة مليئة بالشجاعة، والإيمان، والتسامح، وتعد جزءاً من التراث الشفوي الكوردي، إذ وقف رجل دين في مواجهة قوة عظمى، متحدياً أعرافاً وتقاليد كانت تحكم مصير العشاق. في تلك البقعة من الأرض، لا تزال قصة المطران عيسى تردد صدى تلك اللحظة الفارقة التي جمع فيها بين دينين مختلفين، محارباً قوى السلطة بدافع من حبٍ لا يعترف بالحدود
لكن ماذا لو كانت الشجاعة هي الكلمة الأخيرة في معركة بين الحب والسلطة؟
قصة حب جمعت بين دينين في زمنٍ بعيد
قبل أكثر من مئة عام، في مدينة وان الكوردية، كان قول اغاسي كورد علي، الشاب الكوردي المسلم، ومريم الأرمنية، الفتاة الجميلة، يقاومان قيود زمانهما من أجل حبّهما الذي لا يعترف بجدران أو حدود. كانت قصة حبهما شديدة الصعوبة في تلك الحقبة، حين كانت الأعراف الدينية والاجتماعية تفرض فواصل شديدة بين الأديان والمجتمعات. ورغم هذه التحديات، لم يستطع القدر أن يقف حائلاً بينهما.
عندما وقع نظر والي وان على مريم، أُعجب بجمالها الفائق، فطلبها إلى قصره لتكون زوجته، لتجد مريم نفسها عالقة بين مشاعر الحزن والخوف، إذ لم ترغب في حياة فرضها عليها القدر، بل كانت أحلامها تدور حول حبها لعلي. ومع تصاعد الضغط والتهديد، قررت الهروب مع حبيبها.
الهروب إلى دير أختامار
في ليلة مظلمة، قرر العاشقان الهروب والنجاة من مصيرهما المحتوم. استقلا زورقاً صغيراً وسط الأمواج الهائجة لبحيرة وان، حتى وصلا إلى دير أختامار، حيث المطران عيسى، الرجل الذي عُرف بالحكمة والشجاعة. في تلك اللحظة كان مصيرهم بين يديه.
عندما وصل علي ومريم إلى الدير، كان المطران عيسى غارقاً في نومه العميق. ما كان على علي إلا أن يناديه بصوت ملؤه التوتر والخوف قائلاً:
«أيها المطران، أفق من نومك، فعلت شيئاً لم يفعله أحد قبلي، خطفت حبيبة الوالي، فكن عوناً لنا، واعقد قراننا كما تشاء، على دين الإسلام، وإن كان ذلك غير ممكن فسوف أغير ديني إلى المسيحية».
عندما استفاق المطران، وجد نفسه أمام خيار صعب: هل يرضخ لضغوط السلطة ويحطم قدر عاشقين؟ أم يتبع ضميره في قرار يعصف بالعادات والتقاليد؟ وقف المطران أمام الموقف بحكمة وعقلانية، قائلاً بعزم:
«يا علي، ما أنت بفاعل الرذيلة، ولن أُبطل الشريعة، لست من يقلل من قيمة دين محمد في فناء هذا الدير من أجل فتاة أحببتها لن أدعك ترتد عن الإسلام».
لم يكن المطران مجرد رجل دين بل كان يحمل في قلبه إيماناً يجعل للإنسانية مكاناً أكبر من التقاليد والالتزامات الدينية. وبعد لحظات من التفكير، قال بصوتٍ حازم:
« أقسمتُ بنور عيسى ألا أرد خائباً كل من قصد دير أختامار».
عقد المطران قران علي ومريم، التي أسلمت لتتبع دينه. وعندما علم الوالي بالخبر، أرسل إلى المطران عيسى برسالة، يقول فيها إنه «رأى في حلمه ليلة أمس زوجين من الحَمَام دخلا الدير، سلمني علي ومريم أهبك ألف كيس من الذهب». لكن المطران رفض بكل حزم قائلاً: «لن أسلم، ولن أهين دين محمد في ديري».
غضب الوالي وأرسل رجاله لاحتجاز العاشقين، لكن المطران تمسك بموقفه، متمسكاً بشرف دير أختامار.
صمود المطران أمام جبروت الدولة العثمانية
في موقف بطولي، واجه المطران عيسى سلطات الوالي، رافضاً أن يكون القانون سيفاً يقطع طريق العدالة. حين أرسلت الدولة العثمانية جنودها لاستعادة مريم من الدير، لم تكن مجرد تهديدات، بل مواجهة حقيقية بين السلطة والإرادة الحرة.
ورغم إدراكه أن حياته قد تكون الثمن، أصر المطران على موقفه، مؤمناً بأن الحب والعدالة أقوى من السيوف والجنود. لم يساوم على شرفه أو شرف الآخرين، فأصبح رمزاً للمقاومة في وجه الظلم، وولدت من قصته أسطورة تتناقلها الأجيال.
أسطورة خالدة في الذاكرة
حكاية المطران عيسى لم تعد مجرد ذكرى، بل تحولت إلى رمز خالد للمقاومة والتسامح، وخلدتها الفنون عبر الأجيال. ففي عام 1971، غنى المطرب الكردي المعروف محمد عارف جزراوي أغنية «مطران عيسى» في بغداد، ليكون الصوت الذي أعاد سرد القصة وأوصلها إلى الأجيال الجديدة، وتبعه فنانون آخرون مثل حسن جزراوي. واليوم، يبقى اسم المطران عيسى الأرمني محفوراً في ذاكرة الكورد وكل من يؤمن بأن الشجاعة لا تكمن فقط في حمل السلاح، بل في مواجهة الظلم والتمسك بالحب والعدالة حتى النهاية.
إيمان أسعد: صحفية كوردية