«منارة چولي» معلم أربيل الثاني
«منارة چولي» معلم أربيل الثاني

على الطريق المتعرج المؤدي إلى منارة المظفرية، تتدفق مجموعات من السائحين والزوار المحليين، بعضهم يلتقط صوراً تذكارية، وآخرون يتأملون بصمت هيبة المكان. الشمس تنعكس على حجارة المنارة القديمة، مضفية عليها لوناً ذهبياً يزيدها جمالاً وسط المساحات الخضراء المحيطة بها.

تقع المنارة المظفرية، أو كما يطلق عليها محلياً «منارة چولي»، في الجهة الجنوبية من مدينة أربيل على بعد كيلومتر واحد تقريباً من القلعة التاريخية. وتم تشييدها في عهد السلطان مظفر الدين كوكبوري صهر صلاح الدين الأيوبي، الذي حكم أربيل في الفترة من 567 إلى 589هـ في عهد الأباتكة، وقد ذاعت شهرتها بسبب جمال منظرها وروعة هندسة بنائها. وهي تُعدّ ثاني أهم معلم تراثي وتاريخي وديني لأربيل بعد القلعة الأثرية، حتى أن أهل أربيل، وكوردستان عموماً، يلقبون المدينة بـ«مدينة القلعة والمنارة» في أدبياتهم. 

«هذا المكان يحمل روحاً خاصة لا يمكن وصفها»، هكذا تصف ماريا، سائحة أوروبية تزور المنارة للمرة الأولى. وتضيف: «عندما تقف أمام المنارة تشعر بأنك تعبر أزمنة مختلفة، الهندسة المعمارية مذهلة، والطريقة التي تتناسق بها مع المحيط الحديث تُظهر احترام سكان أربيل لتراثهم. لقد قرأت عنها كثيراً قبل مجيئي، لكن الواقع يفوق كل التوقعات».

وعلى مقعد خشبي في الجهة المقابلة للمنارة، يجلس مام عارف، رجل ثمانيني يرتدي الزي الكوردي التقليدي، يراقب الزوار بعينين تختزنان ذكريات عقود طويلة.

«الحكومة هنا في أربيل بذلت، ومنذ زمن بعيد، كل الجهود حتى تحافظ على هذا المعلم التاريخي»، يقول مام عارف لـ«كوردستان بالعربي» بصوت يحمل نبرة فخر. ويضيف متسائلاً: «هل تعلم أن هذا المكان المحيط بالمنارة كان في يوم من الأيام عبارة عن خرابة ومكب للنفايات؟».

يتابع مام عارف حديثه قائلاً «أما الآن فمحيط المنارة عبارة عن متنزهات تضم كافة الخدمات العامة. السائحون يأتون إلى هذا المكان بشكل مستمر من دون انقطاع. إنها جزء من هويتي».

وفي حوار خاص مع مجلة «كوردستان بالعربي»، كشف الأستاذ الدكتور عبد الله خورشيد قادر، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة صلاح الدين، ونقيب الآثاريين في كوردستان العراق، ومدير معهد العراق لصيانة الآثار والتراث في أربيل، عن التفاصيل المعمارية الفريدة التي جعلت منارة المظفرية بواجهتها التاريخية أيقونةً متفردةً بين نظيراتها من المآذن الأتابكية، مثل «منارة الحدباء» في الموصل، و«منارة داقوق»، و«منارة سنجار»، مشيراً إلى أن «ظاهرة السلالم المزدوجة» هي أبرز ما يميزها.

الصورة: محمد دركليي

 

 

الخصائص المعمارية الفريدة 

أوضح الدكتور قادر أن ظاهرة السلالم المزدوجة، التي ظهرت أولًا في «المِئذنة النورية» بالموصل، تُعدّ سمةً هندسيةً نادرةً نقلها المماليك لاحقاً إلى «منارة القوصون» في الصحراء السيوطي بمصر بعد 246 عاماً. وعن فوائدها قال: «تعمل هذه الظاهرة على ثلاث وظائف رئيسية: تخفيف الثقل على قاعدة المنارة وأطرافها، وجذب البدن نحو المركز لتعزيز التوازن، وإيجاد فراغ داخلي يمنع التقاء الصاعد والنازل في الوقت ذاته». 

ولفت إلى أن اختيار الطابوق (الآجر) بدلاً من الحجر، رغم وفرة الأخير في كوردستان، سمة أخرى تميزت بها المنارة، موضحاً: «اُختير الطابوق لسهولة تشكيله وإمكانية التفنن في صفِّه، فضلاً عن خفة وزنه ومقاومته للعوامل الطبيعية». 

هيكل المنارة.. تفاصيل تُجسّد عبقرية البناء  

وصف نقيب الآثاريين هيكل المنارة الذي يتألف من قاعدة ضخمة مثمنة الأضلاع يعلوها بدن أسطواني، مشيراً إلى أن القاعدة تحتوي على ستة أقواس مستطيلة الشكل بعقود مدببة، تُرتَّب في صفين متتاليين على كل ضلع، لتشكل ما يُعرف بـ«المشكاتين»، حيث تتفاوت أطوالها بارتفاعها. أما البدن، فيزينه زخارف آجرية هندسية تتداخل فيها تشكيلات من القرميد الأزرق، بينما فقدت معظم زخارف حنايا القاعدة بمرور الزمن.

الصورة: علي زيتو

 

سر الصمود عبر القرون 

بلغ ارتفاع المنارة الأصلي أكثر من 37 متراً (15 متراً للقاعدة و22.10 متر للبدن)، وصمدت لأكثر من 850 عاماً رغم الكوارث الطبيعية والصراعات. وعن أسباب متانتها، أكد الدكتور عبد الله خورشيد أن «اختيار الطابوق كان قراراً موفقاً لملاءمته الظروف المناخية وخفة وزنه»، مضيفاً: «شهدت المنارة عمليات ترميم أولية عام 1963 من قبل المديرية العامة للآثار العراقية، ثم أُهملت حتى تحوَّلت المنطقة المحيطة، التي كانت مليئة بالمياه الراكدة، إلى (بارك سياحي) بجهود حكومة الإقليم، تلتها صيانة شاملة عام 2007 بالتعاون مع شركة تشيكية متخصصة تعمل حالياً على دراسة الموقع لإعادة تأهيله من جديد». 

اختتم الدكتور عالم الآثار حديثه بالتأكيد على القيمة الرمزية للمنارة كشاهد على عراقة الحضارة الكوردية الإسلامية، قائلًا: «هذا الصرح ليس مجرد مبنى أثري، بل هو جزء من هوية أربيل العاصمة، إلى جانب قلعتها الشهيرة. ولذا، حرصت حكومة الإقليم على تحويل المحيط إلى منطقة جذب سياحي باسم (بارك المنارة)، ليكون شاهداً على جهودنا في حفظ الإرث الحضاري».  

بهندستها الاستثنائية وتاريخها العريق، تظل منارة المظفرية تحفةً تروي قصص قرون من الإبداع المعماري، وتُقدّم نموذجاً لنجاح الجهود الحديثة في توظيف التراث لخدمة التنمية السياحية والثقافية.


رياض الحمداني: صحفي ومؤلف عمل في العديد من المؤسسات الإعلامية المحلية والدولية


X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved