عندما قررت السفر إلى كوردستان العراق، لم أكن أعرف بالضبط ما الذي ينتظرني هناك. سمعت كثيراً عن جمال الطبيعة في الشمال، وعن طيبة الناس، لكنني لم أكن أتخيل أن التجربة ستكون بهذه الدرجة من الغنى والاختلاف. أردت أن أبتعد عن ضوضاء المدن، وعن السياحة التقليدية التي تعتمد على الفنادق الفخمة والبرامج السياحية المزدحمة. أردت تجربة حقيقية، فوجدتها في كوردستان.
الوصول إلى أربيل
بمجرد وصولي إلى أربيل، عاصمة إقليم كوردستان، شعرت بشيء مختلف. المدينة نظيفة، والناس ودودون بشكل لافت. لا تشعر بالغربة هناك، بل العكس، الجميع يحاول مساعدتك والتحدث معك، حتى لو لم تكن لغتك الكوردية جيدة. أول ما جذبني في المدينة هو القلعة التاريخية التي تتوسطها. قلعة أربيل ليست فقط معلماً أثرياً، بل هي روح المدينة وتاريخها. مشيت في أزقتها، ووقفت عند جدرانها العتيقة، فشعرت وكأنني أعود مئات السنين إلى الوراء.
ما يميز القلعة ليس فقط قِدَمها، بل الحيوية التي تحيط بها. أسواق شعبية تحيط بالمكان، باعة يعرضون بضاعتهم، أطعمة تقليدية، وحرف يدوية تعبّر عن الثقافة المحلية. اشتريت بعض التذكارات المصنوعة يدوياً، وتذوقت أكلات لم أجربها من قبل، مثل الكباب الكوردي والدولمة بنكهتها المميزة.
زيارة دهوك وتجربة مختلفة
بعد عدة أيام في أربيل، قررت أن أستكشف مدينة دهوك، وهي مدينة تقع في الشمال الغربي وتتميّز بجمال طبيعي خاص. الرحلة بالسيارة من أربيل إلى دهوك كانت ممتعة، فالطريق يمر عبر الجبال والتلال الخضراء، والمناظر الطبيعية هناك خلابة. توقفت أكثر من مرة فقط لأتأمل المشهد وألتقط الصور.
في دهوك، زرت «بانوراما آزادي»، وهو نصب تذكاري يحكي جزءاً من تاريخ الكورد ونضالهم. التصميم فني ومعبّر جداً، وكل وجه من الوجوه المحفورة فيه يحمل تعبيراً خاصاً. شعرت بأن المكان يتحدث بصمت، يحمل ذاكرة أجيال، وينقل مشاعر قوية من دون كلمات. رغم أنني لم أتمكن من دخول المتحف الداخلي بسبب الوقت، إلا أن الوقوف أمام النصب نفسه كان تجربة مؤثرة ومليئة بالتأمل.
دهوك كذلك لها طابع مختلف عن أربيل، فهي أكثر هدوءاً وأقرب إلى الطبيعة. زرت أحد الشلالات القريبة من المدينة، وكان المشهد رائعاً، والماء بارداً ومنعشاً. جلست هناك لساعة تقريباً، أستمع إلى خرير الماء وأتنفس الهواء النقي، وكأنني أرتاح من تعب الحياة اليومي.
الفارق بين السياحة في كوردستان ودول الجوار
من خلال تجربتي، شعرت أن السياحة في كوردستان مختلفة عن مثيلاتها في دول مثل تركيا وإيران. في تلك الدول، السياحة غالباً ما تكون منظمة بشكل تجاري بحت: الفنادق الضخمة، الشركات السياحية، الأماكن المكتظة، وكل شيء جاهز ومخطط له. أما في كوردستان، فالأمر مختلف، والتجربة هناك أبسط وأكثر إنسانية.
الناس يتعاملون معك بصدق. لا يوجد شعور بأنك مجرد «سائح» يريدون كسب المال منه. في أحد الأسواق، رفض أحد البائعين أن يأخذ مني مالاً بعد أن أعطيته مبلغاً زائداً عن السعر، وأصرّ أن يعيد لي الباقي بدقة، رغم أنني لم أكن لألاحظ الفارق. هذا الموقف الصغير اختصر لي الكثير عن طبيعة الناس هناك.
كذلك، الطبيعة في كوردستان ليست مزينة بشكل اصطناعي أو مدفوعة بالدعاية. كل شيء طبيعي وعفوي. الجبال، الأنهار، الشلالات، وحتى القرى الصغيرة – كل مكان له طابعه الخاص، من دون مبالغة أو استعراض.
تأملات
خلال هذه الرحلة، تعلمت أن السياحة لا تعني فقط زيارة أماكن مشهورة أو التقاط الصور. السياحة الحقيقية هي أن تعيش تجربة، أن تتفاعل مع المكان، أن تسمع قصص الناس وتشاركهم لحظاتهم اليومية. في كوردستان، شعرت بهذا بوضوح. حتى الجلوس في مقهى صغير، أو الحديث مع سائق سيارة أجرة، كان يحمل طابعاً خاصاً.
كما أنني شعرت بقيمة التاريخ والثقافة عندما لا تكون معروضة في متاحف فقط، بل عندما تكون جزءاً من حياة الناس. الكورد فخورون بهويتهم، ويعبرون عن هذا الفخر بكل بساطة لمن يتعامل معهم. وهذا ما جعل تجربتي أكثر عمقاً وصدقاً.
لكل من يبحث عن تجربة سياحية مختلفة، أنصح بأن يضع كوردستان ضمن خياراته. فليست الطبيعة وحدها ما تجذبك، بل الناس، والسكينة، والصدق الذي يلامس كل تفصيل. قد لا تجد هناك فنادق عالمية فاخرة أو وسائل ترفيه صاخبة، لكنك حتماً ستخوض تجربة أعمق، تنطبع في داخلك وتترك أثراً صادقاً في نفسك.
حكمت العياشي: مصور فوتوغرافي، حاصل على جائزة أفضل لقطة سياحية