حرفيون يحيون الأزياء التراثية
حرفيون يحيون الأزياء التراثية
August 13, 2025

في أزقة بلدة القوش التي تقع على بعد 40 إلى 50 كيلومتراً شمال مدينة الموصل، حيث تتداخل خيوط الماضي مع نسيج الحاضر، يجلس ثامر قودا خلف آلة الخياطة القديمة، وأصابعه الماهرة تنسج قصة تراث عمرها مئات السنين. هنا، في محله الصغير، تولد الأزياء التراثية مجدداً، حاملة معها عبق التاريخ وهوية الأجداد.

الخياط ثامر قودا - الصورة ريمان قودا

 

حكاية ثامر مع خياطة الألبسة التراثية بدأت منذ الصغر عندما كان يرافق والده الذي كان خياطاً معروفاً في بلدة ألقوش. ومع مرور الأيام اكتسب ثامر فنون حرفة الخياطة والتطريز من والده ليجيدها بدقة وإبداع، وهو يحرص حالياً على مواصلة ممارسة مهنته بشغف كبير، قائلاً لمجلة «كوردستان بالعربي»: «سأرافق مهنتي مدى الحياة».

ثامر الذي يتمتع بخبرة جيدة في فنون الخياطة والتطريز، افتتح ورشة صغيرة خاصة به في سوق القوش القديم بداية مطلع الألفية. ومع مرور السنوات، انتقل إلى محل أكبر ليوسع من مشروعه في خياطة الأزياء التراثية وتمكن من تحقيق النجاح وإقبال ملحوظ للزبائن على ألبسته في مختلف مناطق العراق.

ويعتبر موسم الربيع، الذي يشهد احتفالات وطنية ومناسبات اجتماعية، فرصة مهمة لثامر نتيجة الإقبال الكبير للزبائن على شراء وخياطة الأزياء التراثية، إذ تدب الحركة في ورشته كخلية نحل يملأ المكان بقطع أقمشة متنوعة بألوان زاهية. ومن ثم يحولها ثامر بأنامله المبدعة إلى ألبسة تراثية متميزة بتصاميمها وتطريزاتها ونقوشها الجذابة جاعلاً منها تحفة راقية.

شغف ثامر بالمهنة دفعه إلى تعليم ابنه ديار أسرار حرفة الخياطة وفنونها ليستمر في مسيرة مهنة والده وجده، وليحافظ عليها من الاندثار، مؤكداً على ضرورة «مواصلة الأجيال في الحفاظ على المهنة».

هذا الشغف بخياطة الأزياء التراثية، دفع ثامر ليتعمق في أدق تفاصيل عمله، خصوصاً في مجال التصميم والتطريز والنقوش وغيرها، فضلاً عن إجادته لخياطة أنواع الأزياء الفولكلورية في كل قرية وبلدة بمنطقته، وهي تختلف عن بعضها البعض في بعض التفاصيل؛ «ملابس كل بلدة تختلف عن الأخرى، وأجيد خياطة جميع أنواعها» قالها ثامر لـ«كوردستان بالعربي».

ويسمى الزيّ التراثي للرجال في بلدة ألقوش بـ«شال وشبك» ويتألف من سروال وجاكيت وشباقة (حزام الظهر) ويعتمرون رؤوسهم بـ«جمداني» لاوندية وقميص. أما الزيّ النسائي، فتتألف من «شوقتا وقبايا» (أي القميص والقبايا) وحزام كَمَر و«بوشيا» تغطي بها الرأس وگردنة (سلسلة) تضعها حول رقبتها وتراچي. وأغلب القرى والبلدات تلبس هذه الألبسة والإكسسوارات، لكن بتصاميم وألوان وطريقة ارتداء مختلفة من قرية إلى أخرى. 

الصورة: هدير كوندا

 

رحلة البحث عن الأصالة

وفي مدينة أربيل، يخوض ستيف عماد يوحنا الساتي رحلة مختلفة، لكن بالهدف نفسه. وكان «للهجمة الشرسة للعصابات الظلامية حافز كبير دفعني بأن أعمل بجهد مضاعف لتوثيق تاريخ الأزياء بمناطق نينوى»، يكشف ستيف عن الدافع الأقوى وراء عمله المضني. فللحفاظ على هذا التاريخ وتوثيقه «أصبح لزاماً عليّ أن أعمل بشكل أكبر ولوقت أطول في البحث والاستقصاء عن قطع أصلية وقديمة»، ونجح في جمع «عدد من القطع القديمة المصنوعة يدوياً وإعادة ترميمها وتوثيقها وصيانتها وعرضها داخل العراق وخارجها». ولا يوجد تاريخ محدد لصنع هذه الملابس، لكن وبحسب بعض المصادر تتجاوز عمر بعضها أكثر من ألفي عام، تمثل هوية ووجود شعب وتراثهم القومي.

اهتمام عائلته بالتراث المسيحي، وتحديداً الآشوري، دفع ستيف عبر مراحل مختلفة من حياته إلى «الاطلاع على مختلف الأزياء العراقية وتاريخها وأصولها»، فقضى أوقاتاً طويلة يتعلم عن لبس الأجداد وتوقيتاتها واختلافاتها.

وشغف ستيف دفعه إلى التجوال في مناطق عديدة وفي أوقات مختلفة «حتى صار ذلك الشغف إدماناً أستمتع به، وهو يجرّني إليه أينما ذهبت، لأبحث بين الرائج من الأقمشة عن ضالتي، وأفهم فلسفة الأولين في طقوس ملبسهم، ورمزية كل زيّ ودلالة كل قطعة، وكل لون يرتبط أحدهما بالآخر بطريقة ليست بالعشوائية أبداً» يصف ستيف رحلته الاستكشافية.

وبصفته مهتماً بإحياء الزي التراثي، يتحدث ستيف عن شغفه بـ«الأقمشة والخياطة والتطريز»، قائلاً إن ألبسة الرجال تصنع من الصوف، أما ألبسة النساء فمن قماش قديفة. أما فيما يخص بوشية الرأس، فتُصنع من نوع حرير، بينما الزي الآشوري (خومالا) تُصنع من الكتان والقطن والصوف ويحتوي على تطريزات ورسومات تضاف على الألبسة الرجالية والنسائية، وتحمل رموزاً ودلالات دينية وتاريخية وتراثية وحضارية لهذا الشعب. ولكل بلدة رموز خاص بها «وتُطَرَّز يدوياً، إذ لا يزال في مناطق القوش والحمدانية وبرطلة من يعمل في حرفة التطريز».

ومن حيث الوقت يحتاج خياطة وتطريز الزي الرجالي من أسبوع إلى 10 أيام، بينما النسائي يستغرق أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع بسبب تفاصيلها الدقيقة والكثيرة. أما فيما يتعلق بالأسعار، فالزي الرجالي يتراوح سعره بين 250 إلى 700 دولار، والنسائي تبدأ أسعاره من 500 إلى 750 دولار.

وندرة القطع التي يبحث عنها ستيف جعلت «عملية البحث معقّدة، قادتني إلى النادر من التحف»، حيث بذل فيها «جهداً مادياً ونفسياً وجسدياً». هكذا وثّق ستيف «للأزياء كلها في مناطق نينوى، ولفئات متنوعة، وبفترات مختلفة، رغم قلّة متداولي هذه الأزياء من خياطين وبزّازين ومرتدين لها».

الصورة: ريمان قودا

 

لوحة فسيفساء التنوع العراقي

ومن خلال معارضه مثّل ستيف «تاريخ الأزياء لمكونات الشعب العراقي، فصارت لوحة غنية بفسيفساء جمال التنوع في بلاد وادي الرافدين، ذات التاريخ الأقدم في البشرية جمعاء».

وفي العاشر من آذار / مارس من كل عام، يُحتفل سنوياً في إقليم كوردستان بيوم الزي القومي، حيث يرتدي الطلاب والموظفون الأزياء التراثية للكلدان والسريان والآشوريين إلى جانب الزي الكوردي وأزياء القوميات الأخرى، في مشهد يعكس جمال التعايش السلمي وقبول الآخر الذي يتميز به الإقليم.

فيكفي أن تشاهدها لتعرف هوية الشخص الذي يرتديها، ومن أي منطقة أو بلدة ينحدر. لذلك بقي هناك خياطون مهرة، مثل ستيف عماد يوحنا الساتي في أربيل وثامر قودا في بلدة القوش، يدركون قيمة تلك الأزياء، ويحاولون الحفاظ عليها بإعادة الاهتمام بها وتطريزها، لتكون متاحة للآخرين لارتدائها في المناسبات وليُعلنوا عن اعتزازهم بتراثهم وفولكلورهم من خلالها.


هدير كوندا: صحفي متخصص في حقوق المكونات






X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved