«كجك ملا» عالم كرّس حياته لترسيخ قيم التعايش
«كجك ملا» عالم كرّس حياته لترسيخ قيم التعايش

وُلِد مُلا أفندي في عائلة كوردية عريقة ومتدينة وذات مكانة وجاه، فقد كان والده ملا عمر أفندي من كبار علماء الكورد. استقر أفراد هذه العائلة الكريمة في أربيل، وأمضوا معظم حياتهم في تعلّم وتعليم العلوم الشرعية، العقلية منها والنقلية، في المسجد الكبير بقلعة أربيل. وتعتبر هذه العائلة الكريمة ممن عمّروا أربيل وقلعتها بالعلم والمعرفة منذ عقود، واشتهروا بالتقوى والعلم، وكان لهم تأثير في جميع أنحاء كوردستان.

المكانة العلمية للعلامة ملا أفندي

يُعتبر ملا أفندي من كبار علماء العراق. وتلقى تعليمه الأولي في المسجد الكبير في جميع العلوم الشرعية، وبعد أن أخذ الإجازة العلمية على يد والده العلامة ملا عمر أفندي، انهمك - مثل أجداده - في التدريس والتعليم والوعظ والإرشاد. وقد ذكر العلماء في وصف هذا العالم الجليل أنه كان يمتلك من الصفات نادراً ما تجتمع في عالم؛ فقد اجتمع فيه العلم والمال والجاه معاً. فهو مع كونه عالماً، كان ذا إمكانية مالية كبيرة، وكان يصرف على طلاب مدرسته بسخاوة. وكان يمتلك مكتبة كبيرة تحتوي على كثير من الكتب والمخطوطات في شتى العلوم. لكنها مع الأسف تعرض بعضها للحرق والنهب في انقلاب 14 تموز الذي أطاح بالعائلة المالكة العراقية.

وكان ملا أفندي عالماً في شتى العلوم العقلية والنقلية خاصة في علم الفلك الذي اشتهر به وأبدع فيه. وكان الطلاب يأتون إليه من كل المدن لشهرة مدرسته، لأن كل من كان يدرس على يد هذا العالم يصبح عالماً مشهوراً. وكان لهذا العالم الكبير تعليقات وحواش في مختلف العلوم مثل التفسير وعلم الجبر وعلوم الفلك، منها: تفسير القرآن (مخطوطة)، الإسطرلاب (مخطوطة)، الجبر «الطريقة اللفظية القديمة» (مخطوطة)، شروح «اتجاهات المواقف العامة» في شرح كتاب الجرجاني، التعليقات على «قانون المدارات»، شروح كتاب «الإسطرلاب»، ترجمة لكتاب «البديع» التركي عن استعمال الإسطرلاب. وكانت له ترجمات من التركية والفارسية وألف أشعاراً باللغات التركية والعربية والفارسية والكوردية.

الملا أفندي في صورة جماعية كبيرة علم ١٩٣٠

 

جهوده الاجتماعية

لم ترَ كوردستان، ومدينة أربيل خاصة، عالماً مثل العلامة ملا أفندي بالمكانة التي يتمتع بها. فكان يُنظر إليه كمرجع لدى الشعب الكوردي ويُستشار في جميع القضايا الدينية والدنيوية. ولم تقتصر جهود العلامة ملا أفندي في مجال التعليم والوعظ فقط، بل كان له دور كبير في تيسير أمور الدولة والناس، وحل النزاعات بين العشائر الكوردية الساكنة في أربيل. ولم يكن أي شخص يُعيَّن في أي منصب إداري في أربيل إلا بعد موافقة ملا أفندي عليه.

ملا أفندي رمز للتعايش والسلام

العلامة ملا أفندي كان له دور كبير في التعايش السلمي بين الأديان، خاصة مع المسيحيين الذين كانوا يسكنون مدينة أربيل. وكانت بعض العشائر الكوردية القريبة من مناطق المسيحيين يسعون للاستيلاء على أراضي بعض المسيحيين، وبدعم من السلطات العثمانية آنذاك لأغراض سياسية واقتصادية، لكن ملا أفندي تصدى لهذه المحاولات ومنعهم في وقفة تضامنية تاريخية. وبهذا الصدد كتب الكاتب المسيحي جمال مرقص، وهو من أهالي بلدة عنكاوة (بلدة مسيحية معروفة في مدينة أربيل)، مقالاً عن المرحوم ملا أفندي ذكر فيه أن طيب الذكر «له فضل كبير في الحفاظ على مدينة عنكاوة، وله موقف حازم وحاسم تجاه أهلها، إذ استطاع بقدرته وعقليته الحكيمة إبعاد أخطر هجمة شرسة عليهم ربما كانت تؤدي إلى فناء المدينة وأهلها. وإنني إذ أذكّر أبناء بلدتي بهذا الموقف، ذلك كي يتعرف الجيل الحالي والأجيال القادمة وإلى مدى الدهر بأننا مدينون لهذا الرجل العظيم، الراحل ملا أفندي، وعلينا دائماً أن نذكره في جميع المناسبات. وأقترح ذكر اسمه في قداس أيام الأحد من كل أسبوع، وعلى نيته أن نصلي وهذه كانت توصية بعض من آبائنا وأجدادنا عندما كانوا يروون الحادث المأساوي لنا».

إذاً علينا جميعاً، مسيحيين ومسلمين، إيزدية وصابئة، أن نجعل ملا أفندي المثل الأعلى للقيم الإنسانية الحقيقية التي كان يكرس حياته من أجلها.

مكانة العلامة ملا أفندي لدى الملوك والرؤساء والمسؤولين

حظي العلامة ملا أفندى باحترام لدى جميع الملوك والرؤساء وكثير من المسؤولين الذين تعاقبوا في حكم العراق. وقد منح السلطان العثماني عبد الحميد وسام خادم الحرمين الشريفين تقديراً لعلمه ومكانته. ويذكر النقيب دبليو آر هي حاكم أربيل السياسي في كوردستان أيام الاحتلال البريطاني بين 1918 و1920 في مذكراته «سنتان من كوردستان»: «سنة 1921 كنت أزور العلامة ملا أفندي في بيته في باداوة، وقد شهدتُ المفاوضات التي جرت مع رؤساء عشيرة دزَيي». ويصف هذا القائد ملا أفندي قائلاً: «إنه رجل قصير القامة ذو ملامح مصقولة، وسرّه التقوى. ولم أرَ في حياتي مثل يديه الرقيقتين أبداً ويضع على رأسه طربوشاً (يقصد به العمامة التي يلبسها علماء الكورد) وأهلها ينتشون أخباره الطيبة انتشاء الزهور الأرجة، وكل ذلك بسبب علمه وتقواه وحصول أسلافه عبر أجيال على سمعة كهذه. وإنه في العادة يؤم المصلين في الجامع ويعظهم يوم الجمعة. وعلى النقيض من أغلب أفراد طبقته، فهو على التحقيق التقدمي يقرأ النشرات والصحف التي تأتي من مصر وتركيا، وذكي في حديثه حين يتناول الموضوعات السياسية والعلمية. وقد سألته ذات يوم عن وجهة نظره في الوضع القائم في بلاد ما بين النهرين، فأجاب قائلاً: إن كل فرد يتوق إلى رؤية بلاده مستقلة. وبرغم من مكانته لدى السلطة فإنه رفض أي منصب حكومي، ودأب على دعم الحكومة وإعانتها بأقصى ما لديه من نفوذ وقوة».

دور ملا أفندي في حفظ العائلة المالكة في أحداث انقلاب 1941

تذكر الأميرة بديعة، خالة الملك فيصل وأخت الوصي عبد الإله في كتابها «وريثة العروش»، أنه بعد انقلاب رشيد عالي الگيلاني عام 1941، لجأ الملك فيصل الثاني، وهو طفل آنذاك، مع أمه الملكة عالية وخالته الأميرة بديعة وبعض أفراد العائلة المالكة، إلى أربيل وحلوا في ضيافة وحماية ملا أفندي في قصر باداواة. فطالب الانقلابيون بتسليم الملك الشاب وصحبته إلى السلطات الجديدة، فكان الرّد من العلامة ملا أفندي قوياً وحاسماً، إذ قال: «ليس من شيمتنا تسليم من يلجأ إلى حمايتنا. ومن يطالب بالملك، عليه أن يمر على جثتي أولا». لقد حمى العلامة ملا أفندي الملك فيصل الثاني ودافع عنه وعن عائلته. 

مدح العلماء والشعراء للملا أفندي 

مدح كثير من الشعراء الكورد المشهورون ملا أفندي في أشعارهم، منهم الشاعر المعروف پيرميرد والشيخ رضا طالباني، وغيرهما من الشعراء والعلماء.

وفاة العلامة ملا أفندي

عاش ملا أفندي حياةً مضيئةً رائعةً وتوفي العلامة فجر يوم 13 ديسمبر / كانون الأول سنة 1942، وخيم جو من الحزن والصدمة والأسى على وجوه الناس لرحيل ذلك العالم الجليل. وتبادلوا التعازي فيما بينهم. وبكاه الكبير والصغير، العالم وطالب العلم، المتعلم والأمي، وحتى الأطفال بدا عليهم التأثر نتيجة لأجواء الحزن التي خيمت على أسرهم بعد سماع الخبر. ودُفن العلامة ملا أفندي في قبة منفردة في مقبرة بقرية باداوة.


آزاد ملا أفندي: قاضي ووزير عدل سابق في كوردستان



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved