كهف إينشكي.. دمج التراث مع السياحة
كهف إينشكي.. دمج التراث مع السياحة
August 15, 2025

في قلب جبال متين الوعرة، وبين طيات التاريخ العتيق لعمق كوردستان، يتربع كهف إنيشكي كأحد أندر الشواهد الحية التي جمعت بين القداسة والمقاومة، بين الصناعات القديمة والهوية السياحية المعاصرة. ليس مجرد تجويف طبيعي منحوت في الصخر، بل محطة زاخرة بالتحولات، فمن معبد زرادشتي إلى خلوة دينية مسيحية، ومن ورشة للنسيج إلى مستشفى ميداني خلال ثورة أيلول، قبل أن يعاد تأهيله كموقع سياحي، ليصبح من أبرز المعالم استقطاباً للزوار.
في جولة ميدانية قامت بها مجلة «كوردستان بالعربي» لتوثيق أهم المعالم الأثرية والسياحية في محافظة دهوك، برز كهف إنيشكي بوصفه أحد المواقع التي تجمع بين البعد التاريخي والأثري من جهة، والتحول السياحي النشط من جهة أخرى. ليسلط الضوء على أهمية الكهف والمراحل التي مر بها.

المنظور الأثري والتاريخي للكهف

يؤكد الدكتور بيكَس بريفكاني، مدير آثار محافظة دهوك، في حديث خاص للمجلة أن هناك الكثير من المواقع الأثرية في المنطقة، ومن ضمنها كهوف حجرية تعود إلى فترات تاريخية مختلفة. ويُعد كهف إنيشكي من الكهوف الكبيرة التي تقع على سفح جبل متين، حيث تتميز بوابته الجنوبية بدخول أشعة الشمس إليها، الذي يدل على ملاءمته قديماً ليكون موقعاً لجذب البشر.

وأشار بريفكاني إلى أنه من المحتمل أن يكون الكهف قد استُخدم في القرن السابع قبل الميلاد كمعبد للديانة الزرادشتية، نظراً لوجود المصطبة ومصدر المياه، وهما من العناصر المرتبطة بهذه الديانة. كما استُخدم الكهف في الفترات المسيحية كخلوة دينية تُعرف باسم (قُلاية).

كان الكهف القريب من كنيسة «سور»، التي شيدها المطران يوسف بزناني، يُعرف بين بعض سكان المنطقة باسم «كهف جانكا»، وتشير روايات محلية إلى أن اليهود الذين عاشوا في المنطقة قبل مغادرتها عام 1948 استخدموا الكهف كورشة لصناعة القماش، ويُروى أن شخصاً يُدعى حيو ماردانا قُتل فيه عام 1919. وفي أربعينات القرن الماضي، أعيد تخصيص الكهف لأعمال الحياكة وصناعة الألبسة الكوردية، قبل أن يُهمل تدريجياً ويُستخدم لاحقاً كمأوى للحيوانات، وبين عامي 1972 و1974، تحول الكهف إلى مستشفى للپيشمرگة وسكان المنطقة، تحت إشراف الطبيب يوشيا من سرسنك وخالد البامرني.

وأضاف بريفكاني أن الموقع أُعلن عن أثريته في عام 1952 وتم تسجيله في كتاب (أطلس المواقع الأثرية في العراق) بعد زيارة الباحث أحمد حاج مهدي، كما تم تضمينه ضمن المسح الأثري الجديد لجامعة توبينكن الألمانية عام 2013. 

ورغم هذه التوثيقات، لم تُجرَ أي حفريات أثرية حتى الآن بسبب التغييرات التي طرأت على الموقع منذ تحويله إلى معلم سياحي، مؤكداً أن الموقع فريد من نوعه ويحتاج إلى اهتمام أكبر، مع اقتراح بتحويل جزء منه إلى متحف أثري لدمج التراث مع الطبيعة والتاريخ، بحسب بريفكاني.

ومن جهته يؤكد الأستاذ حميد آمدي، مدير سياحة قضاء آميدي، في حديث لمجلة «كوردستان بالعربي»، أن كهف إنيشكي يُعد من أبرز المعالم الأثرية المسجلة لدى المديرية العامة للآثار في محافظة دهوك، حيث تم إدراجه رسمياً في عام 1952 تحت اسم «إنيشكي المنحوتة»، وأعيد تأهيله وتحويله إلى مطعم من قبل الجهات المعنية عام 1978، ليُصبح أول موقع أثري يُستثمر سياحياً في المحافظة، ويحتفظ حتى اليوم بمكانته كوجهة تجمع بين التاريخ والطبيعة.

التحول السياحي للكهف

بدوره، وضح الأستاذ فريق صبري سليم، مدير كهف إنيشكي للمجلة أن فكرة تحويل الكهف إلى منتجع سياحي يأتي نظراً لأهمية موقعه السياحي وبفضل معالمه المميزة، ولما يتوفر فيه من جمال وهدوء، حيث يتمتع بمناخ معتدل على مدار العام، إذ يبقى بارداً صيفاً ودافئاً شتاءً؛ فعندما تبلغ الحرارة في محيطه 40 درجة مئوية، تنخفض داخله إلى نحو 20. وفي الشتاء، تبقى عند 10 درجات تقريباً حتى عندما تهبط في الخارج إلى ما دون الصفر. ويبلغ طول الكهف 30 متراً، وعرضه 18 متراً، ويصل ارتفاع سقفه في بعض المواضع إلى 20 متراً، ما يمنحه اتساعاً ملحوظاً.

ويضيف سليم أن معظم الزائرين يأتون من مناطق وسط وجنوب العراق، وبشكل خاص من بغداد، بينما لا يزال عدد السياح الأجانب محدوداً، رغم المكانة التي يتمتع بها الكهف كوجهة سياحية بارزة.

أما عن التحديات، فأكد سليم أن أبرز الأسئلة التي يتلقاها من بعض السياح هو السؤال الاعتراضي: كيف يمكن تحويل هذا المكان الأثري المهم إلى مطعم؟ رغم أنه يرى في ذلك جانباً إيجابياً من حيث استخدامه بطريقة تخدم السياحة.

وفي هذا السياق، أشار مدير الكهف إلى أعمال التطوير الجارية في محيط الكهف، والتي تشمل إنشاء شلالات وتعديل بعض المناطق الخارجية، مبيناً أنه «لا يمكن المساس بجوهر الكهف، والمعالم الداخلية باقية كما هي، حفاظاً عليه»، مؤكداً وجود توازن مدروس بين متطلبات الاستثمار والعمل السياحي من جهة، والحفاظ على القيمة التاريخية والطبيعية للكهف من جهة أخرى.

وعن تفاعل الزوار، أوضح سليم أن الكثيرين يُبدون اهتماماً واضحاً بعد التعرف على تاريخ الكهف، الذي يستقبل يومياً ما بين 700 إلى 1000 زائر من داخل العراق وخارجه، مقابل رسوم رمزية، مع تزايد ملحوظ خلال العطل والمناسبات. ورغم غياب الوسائل المادية أو المبادرات التوعوية، تعتمد إدارة الكهف على تقديم شرح شفهي للزوار حول تاريخه واستخداماته المتعددة عبر العصور.

واختتم مدير الكهف بالإشارة إلى وجود تعاون إيجابي مع مديرية السياحة، مؤكّداً أن تحويل الكهف إلى وجهة سياحية كان خياراً صائباً للترويج للمعالم الأثرية في كوردستان.


إيمان أسعد: صحفية كوردية 



X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved