ترابط حياة، بكل ما تعني الجملة من دلالات اجتماعية وروحية وبنى ثقافية وسلوكية تجمع المواطن العراقي العربي بشقيقه الكوردي، ترابط يمتد لآلاف السنين كما دونته كتب التاريخ وأطاريح الأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي.
خارطة الروح العربية - الكوردية عمادها التصاهر والانتماء المشترك لمفهوم المواطنة، وبذل الغالي والنفيس من أجل رفعة الوطن وتقدمه كونه هوية وجود وتعريف للكرامة وقيم الحضور بين المجتمعات الأخرى، وكانت مهمة الدفاع عن العراق خط السباق الذي لا يفرق بين قومية الكوردي من العربي في مشروع سيادة الوطن وحضارته وتقدمه.
تاريخ واحد بمستويات عيش وانتماء وتشارك منفتحة على الحياة بجميع عناوينها واختلاف أزمنتها وعناصر قوتها أو ضعفها، فكان قادة الفكر والمعرفة من الكورد ينافسون عدد القادة من كبار ضباط الجيش وإدارة شؤون البلاد، لا فرق بين عربي وكوردي إلا بمقدار ما يقدم من حب وتضحية وتميز من أجل الوطن وتقدمه وسلامته. وإذا توقفنا عند مفاصل زمنية معينة من تاريخ العراق الحديث، فقبل مئة سنة من الآن، أي مطلع القرن العشرين وبداية الاحتلال البريطاني للعراق، تجد مقاومة العراقيين في جنوب البلاد ضد الإنكليز، والتي قادها المجاهد محمد سعيد الحبوبي، يرجع صداها في شمال الوطن ومدن كوردستان بقيادة المجاهد الثائر الشيخ محمود الحفيد وثوراته المتجددة للخلاص من الاستعمار.
تاريخ معمد بالتضحيات وعناق المحبة وتقاسم المسرات والأحزان، حتى جاءت عوالم السياسة لترفع بين أبناء الوطن الواحد نوازع الانتماء القومي والمناطقي، فقد جاء الفكر القومي الشوفيني، ليضع حدوداً وفواصل بين الكورد والعرب في نظرة استعلاء ومنهج سلوكي صار يبتكر أسباباً مختلفة لحدود الجغرافيا السياسية ما بين العرب والكورد.
الكورد والعزل الجيوسياسي!
عندما بدأ المواطن الكوردي يتلمس حدود وجوده الحضاري، ويطالب بحرية هويته الثقافية وخصائصه التراثية، لم تتفهم السلطات السياسية معنى تلك الحرية كمعطى وجودي طبيعي يلازم الإنسان الحر. فمهما كان الانتماء إلى فكرة المواطنية كسلوك ومنهج فكري، تبقى الثقافة الفرعية والتراث القومي، تشكل جذوراً عميقة وفاعلة في طبقات الشعور والإحساس بالانتماء إلى الوطن الأكبر، لكن طغيان واستهتار السلطات الفاشية والاستبدادية، لم تكن تصغي سوى لصوتها الداخلي، وما يترشح عنه من نهج عدائي وثقافة مغلفة بكراهية وسلوك عدواني، يهدف إلى معاداة الكورد ومحاولة مسخ انتمائهم وثقافتهم وقطع تواصلهم من جذورهم القومية عبر حملات القمع والتهجير القسري ومساع ممنهجة للتغير الديموغرافي لمناطق وبيئة الكورد الجغرافية.
ولم تتوقف معاداة السلطات الرجعية والاستبدادية على الكورد فقط، بل لاحقت الأحرار من العرب وبقية المكونات المتطلعة للعدالة الاجتماعية والحرية وتكافؤ الفرص في حياة بلا تفرقة أو عزل سياسي، كما استمرت الحالة السلطوية في العراق زهاء نصف قرن وأكثر، أي منذ خمسينات القرن الماضي حتى عام التحرر من الفاشية 2003.
نصف قرن وأكثر كان النضال الكوردي من أجل الحرية لشعب كوردستان، يشكل رديفاً عضوياً لفكرة الديمقراطية للعراق، أي نضال مشترك للتحرر من السلطات القائمة على اضطهاد شعبها وسلب حقوقهم بالحرية والعيش الكريم والعدل والمساواة وحقها في التعبير عن انتمائها القومي والفكري. فكانت ربوع كوردستان تشكل ملعباً مفتوحاً لجميع الأحرار والمناضلين العراقيين من عرب وكورد من دون تفرقة.
وإذا كانت الثورة الكوردية بمنعطفاتها الأولى والحادة، بقيادة الراحل المناضل الكبير الملا مصطفى البارزاني، فإن الأحزاب العراقية اليسارية والوطنية سرعان ما وجدت في جبال كوردستان حصوناً وعرائن أمينة لحماية أحلامهم في الثورة وتحقيق حلم الحرية للوطن والمواطن.
نصف قرن وكوردستان مرتع للانتفاضة ومأوى للثوار من قوى وطنية كوردية وشيوعية وإسلامية، من دون تفرقة أو تمييز، بل كان الشعب الكوردي يشارك الثوار والمتمردين الأحرار برغيف الخبز، ويضمد جراحهم بآمال الوطن وقصائد الحب، وهي ترسم آفاقاً واسعة لمستقبل زاهر.
اختلط الدم العربي مع الكوردي في أنشودة الحرية على جبال كوردستان، وكانت الأحزاب الكوردية تشكل الغطاء النضالي، وترمم الموقف الوطني الواحد بوجه الوحشية التي تمارسها الأنظمة المعادية، وقد بلغت ذروتها في استخدام السلاح الكيمياوي ضد الشعب الكوردي، وحرب الأنفال ضد المناضلين جميعهم، الذين اتخذوا من الجبل موضعاً لقتال الرجعية البعثية آنذاك. وهكذا كان الموقف النضالي الواحد بجمع الكوردي مع العربي في أفق واحد للحلم بوطن يخلو من الفاشية، وحرية حياة تتنفس إشراقات متجددة في بناء الوطن والإنسان.
سقوط نظام صدام حسين وانتهاء الحكم المطلق لحزب البعث في العراق، كان موعداً للبدء بمشروع الحلم السياسي الذي تبنته الأحزاب والقوى الوطنية وبرامجها السياسية التي تمخضت عن مؤتمرات أربيل وبيروت ولندن. والجهود الحثيثة التي بذلتها الأحزاب الكوردية والحركات الليبرالية واليسارية التي لخصت مشروعها في بناء الديمقراطية للدولة المدنية العراقية الاتحادية، والحكم الاتحادي لكوردستان العراق، خصوصاً أن الأحزاب الكوردية قد عاشت تجربة الإدارة الذاتية بعد عام 1991 تحت ظل حماية دولية.
مشروع الدولة العراقية الاتحادية الديمقراطية، لم ينجز كما رسم له في الدستور العراقي الدائم عام 2005، ولم تستمر الحالة التوافقية التي سادت في السنوات الأولى للتغيير وإقامة النظام السياسي وفق السياقات التي تتطلبها الحياة الدستورية والديمقراطية، التي تشترط التشارك في القرار السياسي والاقتصادي والأمني. لقد دخلت الأجندات الخارجية التي يسودها تطور العراق وبناء أنموذج الديمقراطية في الشرق الأوسط في أعقاب نظام دكتاتوري كان يهدد السلام والأمن في محيطه الإقليمي. فتسللت هذه الأجندات مستفيدة من العرف السياسي في جعل مبدأ المحاصصة منهجاً في توزيع الأدوار والسلطات والمواقع، وجاء التنازع على الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز والأراضي المتنازع عليها، بسبب غياب تشريع قوانين تنظم وترشد العلاقة بين السلطة المركزية وسلطات الإقليم. وهنا تدخلت الإرادات الخارجية لتجعل الخلافات تتقدم على محاولات تجاوز الخلاف والفرقة بين أبناء الوطن الواحد.
حداثة التجربة السياسية الديمقراطية في العراق، وما تعرضت له من هجوم إرهابي وتدخلات دول الجوار، وحروب داخلية أهلية لعناوين طائفية وعرقية جاءت بها الأجندات الخارجية، أوقع العديد من الخسائر للعراق في موارده البشرية والمادية، وجعل المسار الديمقراطي والدستوري ينحرف في العديد من المواقف والأحداث التي ما كان لها أن تحدث لو كانت الإرادة العراقية متحررة من الضغوط بإثارة النزعات الطائفية والشخصية، وتدخل القرارات الخارجية من دول الجوار التي تسعى لجعل العراق حديقة خلفية لها، وليس من مصلحتها أن تسود حالة من التوافق والتفاهم والقرار العراقي الواحد.
لقد بدأت مرحلة جديدة من الصراع والتحدي من أجل الحفاظ على مكتسبات عقدين ونيف من التجربة السياسية الديمقراطية، والتجربة الاتحادية لحكومة إقليم كوردستان التي حققت نجاحات باهرة في الإدارة والبناء ومشاريع التنمية والازدهار. واليوم تعقد الآمال على قدرة أبناء الشعب الواحد من عرب وكورد وتركمان على تجاوز العقد والخلافات الشخصية في أفق العلاقات الأخوية والمصير الواحد. كذلك في إدراك حقيقة أن حرية القرار العراقي الوطني الناتج عن المشاركة الحقيقية في المسؤولية، يغلق الطريق أمام مساعي الجهات والدول الخارجية لإحداث الفرقة وإضعاف الموقف الوطني وتشتته، خصوصاً أن الأحداث الساخنة والأوضاع القلقة والخطرة من حروب وتهديدات وجودية تحيط بالعراق، تدفع بهاجس الضرورة الملحة إلى تجاوز الخلافات بين حكومة الإقليم وحكومة المركز والعودة إلى قواعد العمل الدستوري، والتشارك الوطني العملي بما يحقق وحدة القرار، ويورد التوافق والتفاهم المتبادل بين أبناء الوطن الواحد من أجل مستقبل أفضل.
فلاح المشعل: كاتب مختص في شؤون السياسة