حينما ندرك التباين الواضح بين مفهومَيْ النخبوية والشعبوية، وما أنتجته النُخَب السياسية والثقافية في البلدان الإقليمية (العراق، وتركيا، وسوريا، وإيران) من رأي عام تجاه الكورد وقضيتهم، نصل إلى النتيجة التي تفيدنا بأن هذه النُخَب لم تسهم في أي تحول إيجابي ملحوظ. بل على العكس، فقد كان دورها سلبياً وأسهمت في ترسيخ الصورة النمطية تجاه الكورد وقضيتهم القومية بخاصة من خلال أجهزة الإعلام والمنصات التي تُغذي الثقافة الإلغائية لدى المتلقي الذي تتأثر سايكولوجيته بسرعة وبساطة بما تبثه المنصات الإعلامية.
هنا لا بُدَ من الإشارة إلى أن دور النخبة لا يمكن إنكاره فيما يخص الحوار الكوردي - العربي على مستوى بعض المؤلفات (غير المعروفة) وكذلك على مستوى العلاقات الشخصية والتنظير المنفصل عن الواقع إلى حد كبير. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا حققت حوارات النخبة على أرض الواقع في هذا الصدد؟ هذا في حال إدركنا وأخذنا بعين الاعتبار حالة الانفصال - شبه التام عن الجمهور - الذي تعيشه النخب، مع تصورها بأنها فاعلة ومؤثرة... والسؤال الأكثر إلحاحاً هو: ماذا حققت هذه النُخب في مسار الجولات العديدة للحوار الكوردي - العربي ومنذ أكثر من ثلاثة عقود؟ هل غيرت رؤية الإعلام العربي الرسمي عموماً للكورد ولقضيتهم؟ هل دشنت لمشروع التعايش والاندماج وقبول الآخر على مستوى الشرائح الشعبية؟
حسب رؤيتي، الجواب معروف، وهو: أنها لم تحقق ما هو جدير بالملاحظة على مستوى الجمهور (كورداً وعرباً) باستثناء بعض التنظيرات التي غدت مواد أرشيفية، والبحث في التاريخ ونمطية العلاقة التاريخية بين الأمتين الكوردية والعربية ودور الكورد وإسهاماتهم في الثقافة العربية. أما فيما يخص تأثيرها على نمطية العلاقة بين الأمتين (على مستوى الفعاليات الاجتماعية والشعبية)، فإنه لا يكاد يُلاحَظ،.
وسيكون من غير الموضوعي أن يتصور البعض أن مستوى العلاقة الحالية بين الشرائح الشعبية للأمتين هو من نتاج النُخب الثقافية وحواراتها. بل إن ما نشهده حالياً هو نتاج الثقافة الشعبوية التي تتميز بالصلاح والنقاء والتلقائية، وغير منفصلة عن هموم الناس وواقعهم. فالسياحة والفن والرياضة والفعاليات الشعبية المتعددة وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي حققت ما لم تحققه حوارات النخب على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
إن مشكلة النخب الرئيسية في هذا الصدد تكمن في الرؤية، وفي رفضها للشعبوية كمصطلح ثقافي، والاستعلاء عليها، كما هو معروف فإن الثقافة الشعبوية مجموعة من القيم والمعتقدات والأفكار والممارسات تتبناها مجموعة بشرية ما وتعبر عن نبض الشارع وتعكس الهوية الثقافية للمجتمع كما أنها تلعب دوراً مهماً في تكوين الرأي العام. وهذه الملامح ظهرت جلياً في موضوع التعايش والتقارب بين الكورد والعرب في العراق على مستوى الجمهور وحققت وتحقق نجاحات ملحوظة على عكس الحوارات النخبوية التي لم تحقق ما حققه جمهور الطرفين (كورداً وعرباً).
لو كانت هناك قواعد بيانات خاصة بما حققته هذه الحوارات النخبوية على المستوى الشعبي لأدركنا بأنها لم تحقق شيئاً ملحوظاً على مستوى القواعد الشعبية. فعلى سبيل المثال في سوريا، ماذا فعلت وماذا قدمت وكيف أثرت النخب الثقافية العربية - التي شاركت في العشرات من جلسات الحوار الكوردي العربي - على الجمهور العربي السوري؛ هل تراجع المد الشوفيني؟ هل تغير الخطاب الإعلامي؟ هل نلمس حالة فريدة من التعايش بفضل التأثير النخبوي؟
هذه الأسئلة وغيرها الآن مطروحة أمام النخب السياسية كي تعيد هي النظر في موضوع الحوار الكوردي – العربي. هذا الحوار الذي كان دوماً بمبادرات سياسية كوردية خالصة وعلى المستوى الرسمي، في حين تكاد تلك المبادرات شبه معدومة لدى النخب السياسية العربية على المستوى الرسمي.
هڤال زاخويي: كاتب وأكاديمي