في لحظةٍ نادرةٍ من لحظات تجلي الثقافة، وفي مشهدٍ استثنائي من مشاهد التلاقح الحضاري، تظهر أعمالٌ تُجسّد روح الإبداع الإنساني وتتخطى حدود اللغة والزمن. وفي هذا السياق، تأتي الترجمة الفارسية الحديثة لملحمة «مم وزين» الكوردية الخالدة لتُشكّل حدثاً ثقافياً بارزاً يستحق التأمل والدراسة، متوّجةً مسيرة طويلة من التفاعل بين القصيدة العظيمة والثقافات المجاورة.
الملحمة الخالدة.. تاريخ ومكانة
في صميم الذاكرة الأدبية الكوردية، تقف ملحمة «مم وزين» شامخة كرمز خالد للحب العذري، متوشحة بألوان الفقد والوفاء، مشبعة بروح التصوف والمأساة. هي ليست مجرد قصة حب، بل حكاية شعب، ومرآة لتقلبات التاريخ، وصرخة شعرية عبرت حدود الزمان والمكان. هذه الملحمة، التي أبدعها الشاعر الكوردي الكبير أحمدي خاني في أواخر القرن السابع عشر (1692)، أصبحت حجر الزاوية في الأدب الكوردي المكتوب، ونقطة التقاء بين الأدب الشعبي والفكر الفلسفي.
«مم وزين» قصيدة طويلة تتجاوز 2,661 بيتاً شعرياً حَوَت فيها كل ما يمثل الإنسان وقواه الذاتية كالخير والشر والوجود والجمال والفن والحرية والدعوة إلى الخير، وهي شعلة فريدة في مجال العطاء الإنساني وقدرة الفرد على التحمل والبذل في سبيل قضية إنسانية، وقد وُصفت بأنها قريبة في عظمتها من «إلياذة هوميروس». وبينما يُعتقد أن قصة الحبيبين لها جذور واقعية تعود إلى مدينة جزيرة بوتان (جزيرة ابن عمر) في كوردستان الشمالية، فإن أحمدي خاني قد حوّلها إلى عمل فني متكامل، يجمع بين جماليات الشعر وعمق الفلسفة وحرارة المشاعر الإنسانية.
أحمدي خاني.. الشاعر والفيلسوف والثائر
ولد أحمدي خاني عام 1650 في منطقة هكاري، وتوفي عام 1707، تاركاً وراءه إرثاً ثقافياً هائلاً. كان خاني شاعراً وصوفياً ومثقفاً نهضوياً، اختار أن يكتب باللغة الكوردية في زمن كانت فيه هذه اللغة تُقصى عن دوائر الكتابة الرسمية والعلمية، مما يعكس موقفاً ثقافياً وسياسياً متقدماً على عصره.
المثير في الأمر أن خاني لم يكتب الملحمة كحكاية حب فحسب، بل جعل منها منبراً للدعوة إلى وحدة الأمة الكوردية، وتأسيس كيانها السياسي والثقافي. فهو يربط مأساة العاشقين بالفوضى السياسية، وغياب «الملك العادل» الذي كان يمكن أن ينصف الحبيبين، مما أضفى على العمل بُعداً قومياً وثورياً كان سابقاً لعصره. وكما يقول المؤرخون: عندما كان الناس في الشرق الأوسط يُعرّفون أنفسهم وفقاً لانتماءاتهم الدينية، كان خاني يطرح فكرة الدولة الكوردية المستقلة، متجاوزاً حدود زمانه الفكرية.
الترجمة الفارسية الحديثة.. جسر بين ثقافتين
في إضافة متميزة إلى سجل الترجمات الأدبية الراقية، قام الأكاديمي والشاعر الدكتور شيرزاد شفيع بابو بارزاني بترجمة ملحمة «مم وزين» إلى اللغة الفارسية بأسلوب شعري محكم، استطاع فيه أن يجمع بين بلاغة اللغة الفارسية وجماليات النص الكوردي الأصيل.
صدرت هذه الترجمة في شباط 2025 ضمن كتاب فخم، صُمم بعناية فائقة، ليكون تحفة فنية متكاملة تليق بعظمة النص وأصالته. وما يميز هذه الترجمة عن سابقاتها هو الاهتمام الاستثنائي بالجانب البصري والتشكيلي، حيث زُين الكتاب بلوحات فنية مذهلة مرسومة بأسلوبي الشكستة والتعليق، وهما من أشهر خطوط الخط الفارسي الكلاسيكي.
كما احتوى الكتاب على مجموعة نادرة من لوحات المينياتور (المنمنمات) التي تصور ملامح الشخصية الكوردية في ذلك الزمان، من حيث اللباس، والعمارة، والعادات الاجتماعية، مما جعل من هذا العمل ترجمة أدبية وتشكيلية في آنٍ واحد، تُثري المشهد الثقافي وتُعمّق الحوار بين الفنون المختلفة.
أهمية الترجمة الفارسية في سياق تاريخ الترجمات
لا تقف هذه الترجمة الفارسية وحيدة في ساحة الثقافة، بل هي حلقة مضيئة في سلسلة طويلة من الترجمات التي نقلت ملحمة «مم وزين» إلى لغات متعددة، ولكل منها قصتها وخصوصيتها حيث قام الشاعر الكوردي البارز هژار موكرياني بترجمة الملحمة شعراً إلى اللهجة السورانية الموكريانية، بأسلوب أدبي رفيع، محافظاً على الروح الصوفية والجمالية للنص الأصلي. أتاحت هذه الترجمة للقراء في كوردستان العراق وإيران التفاعل مع هذا العمل الخالد بلهجتهم الدارجة. وهناك عدة ترجمات إلى التركية العثمانية، ولاحقاً الى التركية الحديثة. وتمت ترجمة الملحمة الى الآذرية من قبل الأديب شامل أصغروف، بجانب ترجمات عدة إلى العربية والتي من أبرزها ترجمة العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، إضافة إلى ترجمة وشرح مفصل بقلم الكاتب والروائي جان دوست في 700 صفحة.
ونشر المستشرق الفرنسي روجر ليسكو دراسة حول الحكاية وأصدر نسخة فرنسية عام 1942 بعنوان Mem et Zîn: épopée kurde، وهي من أدق الترجمات وأشملها نقداً وتحقيقاً. ومن اللغات الأخرى التي ترجمت إليها «مم وزين» هي اللغات الإنجليزية والألمانية حيث ظهرت ترجمات إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية، بعضها كامل والآخر جزئي، في إطار الدراسات الأكاديمية للأدب الكوردي والصوفي. ومن أبرزها ترجمة الكاتب الموسوعي صلاح سعد الله إلى الإنجليزية والدكتور فرياد فاضل إلى الإنجليزية والألمانية.
في هذا السياق المتنوع من الترجمات، تبرز الترجمة الفارسية الجديدة كإضافة متميزة، ليس فقط لكونها نقلت النص إلى لغة مجاورة ذات تراث أدبي عريق، بل أيضاً لأنها اتخذت من الترجمة مشروعاً ثقافياً متكاملاً، يجمع بين الشعر والتشكيل والخط، في محاولة لاستعادة روح العصر الذي ولدت فيه الملحمة.
البناء الفني والدلالي للملحمة في ثوبها الجديد
تتخذ ملحمة «مم وزين» في نصها الأصلي شكل قصيدة سردية مكتوبة على بحر «الرجز»، وتتضمن مقدمة طويلة في مدح النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، تليها فصول متتابعة تروي قصة الحب المأساوية بين الأمير مَم والأميرة زين.
يحضر الشر في الملحمة في صورة بَكو، خادم البلاط الحاقد، الذي يرمز إلى الفساد والأنانية والطبقية. وتأتي النهاية الدرامية حين يُدفن مم حياً في القبر الذي حُفر له ظلماً، وتلتحق به زين من شدة الحزن، لتُدفن بقربه. لكن وردة تنبت من كل قبر وتتلامس الأغصان فوق التراب، كرمز أزلي للوصال بعد الموت.
استطاعت الترجمة الفارسية الجديدة أن تحافظ على هذا البناء الدرامي المؤثر، مع إضافة لمسات بصرية تُعزز من قوة النص وتأثيره. فاللوحات المينياتورية المصاحبة للنص تقدم تفسيراً بصرياً للحظات الدرامية الكبرى في القصة، كما أن الخط الفارسي بأسلوبيه الشكستة والتعليق يُضفي طابعاً روحانياً على الأبيات الشعرية، يتناغم مع المضمون الصوفي للملحمة.
«مم وزين» في الفنون المعاصرة
لم تقتصر حياة «مم وزين» على الكتب والمخطوطات، بل امتدت إلى الفنون المسرحية والمرئية المعاصرة. فقد قُدمت ومُثلت كعروض مسرحية في كوردستان العراق، وفي سورية وتركيا.
ففي عام 1991، أخرج أوميت ألچي فيلماً يحمل نفس الاسم استناداً إلى الملحمة. ونظراً لحظر اللغة الكوردية في تركيا آنذاك، اضطر المخرج لإصدار الفيلم باللغة التركية.
وفي عام 2002، أنتجت قناة كوردستان الفضائية مسلسلاً درامياً ضخماً بعنوان «مَمي آلان»، وصفه مدير الدراما في القناة، ناصر حسن، بأنه «العمل الفني الأكثر أهمية والأكثر تطوراً»، حيث شارك فيه أكثر من 1000 شخص و250 ممثلاً.
تشهد هذه الأعمال الفنية المتنوعة على حيوية النص وقدرته على الإلهام عبر العصور والأجيال، وتؤكد أن «مم وزين» ليست مجرد نص أدبي، بل هي ظاهرة ثقافية متجددة، تتخطى حدود النوع الأدبي والوسيط الفني.
بين الخلود والأمل.. رسالة «مم وزين» المتجددة
«مم وزين» ليست فقط قصيدة، بل صوت أمة تبحث عن ذاتها في مرآة الحب. لقد أنقذ أحمدي خاني هذه القصة من الغياب، ومنحها عمراً أبدياً بلغة الشعر. وما تزال الملحمة، حتى اليوم، تُقرأ وتُترجم وتُستلهم في الأعمال الفنية والثقافية، لتؤكد أن الحب حين يُصاغ بالحبر والدمع، يظل خالداً لا يموت.
الترجمة الفارسية الجديدة لهذه الملحمة، بما تحمله من جماليات بصرية وشعرية، شهادة على استمرار هذا الخلود، وعلى قدرة النصوص العظيمة على تجاوز الحدود اللغوية والثقافية والسياسية. إنها دعوة متجددة للتأمل في المشترك الإنساني الذي يتجلى في قصص الحب والتضحية، وفي القيم العليا التي تنتصر، ولو رمزياً، على الظلم والقهر.
وفي عالم تتزايد فيه الحواجز والصراعات، تأتي هذه الترجمة لتذكرنا بأن الثقافة في جوهرها جسر للتواصل والتفاهم، وأن الأدب العظيم يمكنه أن يوحد القلوب والعقول، متجاوزاً حدود اللغة والزمن.
إسماعيل خالد گلالي: مترجم وشاعر وصحفي