رافَقَتْه في معظم حفلاته، وكانت جزءاً من إنتاجه الموسيقي والغنائي، إنها آلة البزق التي ورث الموسيقار اللبناني زياد الرحباني حبها عن أبيه، وقالها أمام الكاميرا: إنها آلة وطنية كوردية لا أحد يمكنه إنكار ذلك، ليعود ويؤكد أن الإنسان هو قضيته الأولى بعيداً عن الطائفية والعنصرية والعرقية.
ولم تكن علاقة زياد الرحباني بالبزق، علاقة عابرة لإكمال أغنية أو تأدية مسرحية، بل انعكاساً لإيمانه الراسخ بحقوق الشعوب المهمّشة وانحيازه الدائم للإنسان قبل كل شيء. فظهرت هذه الآلة الكوردية في أول مسرحية ألّفها ولحنها في سبعينات القرن الماضي وهي مسرحية سهرية، كما طالب بحقوق الكورد في لبنان، مستدركاً في إحدى المرات: «يمكن رأيي ما يغير شي بس عم جرب أحكي»!
رحل زياد الرحباني عن عالمنا في 26 تموز / يوليو الماضي، وسط ظروف قاسية تعيشها المنطقة، ليطوي صفحة من التاريخ اللبناني الحديث. مجلة «كوردستان بالعربي» التقت بعدد من أصدقاء الموسيقار وأجرت حواراً مفتوحاً معهم عن علاقته بآلة البزق ورأيه بالقضية الكوردية، لتهدي هذا التقرير لكل مُحبّ للاإنسانية بلا ولا شي.
في بيروت
«حاول عموماً تبتسم للناس، معليش هَيدي مش عالكهربا ولا عالبطارية ولا عالبنزين» هذه كانت فلسفة زياد الرحباني في الحياة التي ترجمها في تصرفاته، عن ذلك يقول الشاعر الكوردي السوري مروان علي: حين وصلتُ إلى بيروت في نهاية الثمانينات سألت صديقي الشاعر اللبناني يوسف بزي عن زياد الرحباني، أخبرني أنه يتردد على بار (حانة صغيرة) اسمه «شي أندريه» في شارع الحمرا، فقررت أن أراه، كنت أذهب يومياً إلى البار لعلني ألمحه لكن من دون جدوى، حتى وجدته يوماً يسير وحيداً في شارع الحمرا، سلّمت عليه وكان لطيفاً متواضعاً طيّباً، عندما أخبرته أنني شاعر كوردي شعرتُ بالمحبة في عينيه.
أما اللقاء الثاني والأطول كان في شقة صغيرة للشاعر اللبناني جوزيف حرب، حيث التقيت مع جوزيف في مقهي «الويمبي» ببيروت ثم مضينا إلى شقته وجاء زياد الرحباني، كانت فرصة حقيقية للحديث عن علاقته بالموسيقى واندهشت لسعة اطلاعه على واقع حركة التحرر الكوردية خاصة في تركيا وسوريا. أخبرني وقتها بأنه يحب الاستماع إلى الأغاني الكوردية خصوصاً لمحمد شيخو ومحمد عارف جزراوي، وأيضاً كان صديقاً لعدد من الفنانين والموسيقيين الكورد منهم سعد حاجو وزورو وآخرون.
ويصف الشاعر مروان علي شخصية زياد الرحباني بالعنيدة، يقول: بعد أن لحّن تحفته الموسيقية «ديار بكر»، وأهداها للكورد الذين يواجهون الظلم والإنكار بالموسيقى والأغاني، رغب بتلحين قطعة موسيقية أخرى خاصة بالكورد، كان مصرّاً على ذلك، كما أن هذه المقطوعة صنّفت من الأعمال غير التجارية التي لم تنشر ضمن ألبوم محدد، وانتشرت أول مرة عبر الإنترنت في عام 2012، لأنه كان عنيداً في السياسة والفن معاً، عندما سألته عن سبب عناده، أجاب ضاحكاً: «تنحدر عائلة أمي من ماردين.. يعني فيني عرق كوردي!».
وتعود البزق لتتألق في قصيدته «الرفيق الكوردي» التي ألّفها ولحنها زياد الرحباني نهاية التسعينات، وأعلن من خلالها عن تضامنه مع قضية الهوية الكوردية، وقال فيها: «إذا اليمين إلى زوال، بيبقى من واجب اليسار أنو يفتح هالقاموس ويفتش عكلمة تستكردني! ويلغيها من القاموس العربي اللبناني اللي مش معروف إذا عربي أو لبناني، أنو الكوردي لازم يترجاكم ليعيش رفيق ومواطن درجة أولى! نحنا كلنا لازم نكون مواطن ورفيق درجة أولى مش بس الرفيق إكس!».
آلة البزق في موسيقى الرحباني
معظم المسرحيات التي ألّفها ولحنها زياد الرحباني، نغماتها الموسيقية تبدأ بأوتار آلة البزق، منها مسرحية «نزل السرور»، يقول رأفت أبو حمدان، العازف السوري الذي عمل ضمن فرقة زياد الرحباني إلى ما قبل وفاته بفترة قصيرة: «استخدم زياد آلة البرق في جميع ألحانه خاصة الألحان الشرقية، ووظفها بشكل دقيق مع المعزوفات الغربية، فكان أفضل من جمع بينها في التوزيع الموسيقي، وفي حفلة الجاز ضمن مهرجان الجاز في مصر عام 2017، جمع زياد بين البزق والجاز معاً، أذكر تصفيق الجمهور المعجب بهذه التوليفة الموسيقية التي عجز أي موسيقي آخر على تلحينها.
ويوضح أبو حمدان أن زياد تعلّم حب آلة البزق من والده الموسيقار عاصي الرحباني، الذي استخدمها أكثر من العود في موسيقاه. حتى أغنية «عودك رنان»، رغم أن السيدة فيروز تقول فيها «عودك رنان رنة عودك إلي.. عيدا كمان ضلك عيد يا علي»، إلا أن العازف علي كان يعزف على آلة البزق وليس على العود، رغم وجود العود ضمن الفرقة الموسيقية.
وداعاً زياد الرحباني
«مأزق زياد الرحباني الفعلي أنه كان غريباً دائماً عن واقعه» يقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع: كان ثائراً ومكتشفاً ومبتكراً، فأحدث ثورة في مضمون الأغنية العربية ليس فقط من الناحية الصوتية بل من خلال الرسائل الاجتماعية المبطّنة التي رفضت الواقع وانتقدت الموروث السياسي والأخلاقي العربي عبر طرح أسئلة عميقة حول الهوية والفقر وتقرير مصير الشعوب وشتات المواطن العربي، ولم ينسَ زياد الرحباني شتات المواطن الكوردي في موسيقاه».
«زياد في أواخر أيّامه كان مكتئباً ومنعزلاً بسبب الوضع العامّ والمزاج العربي السيّئ، كما أنه أوقف العلاج والأدوية بعد أن أنهكه المرض». هذا ما أخبرتنا به صديقته السيدة ضحى الدبس التي وصفته بأنه الفنان الذي لم يخشَ قول الحقيقة يوماً. وجسد بأعماله التحولات المجتمعية والسياسية بطريقة ساخرة، وجعل من كل قضية محوراً للتساؤل والتمرد.
ومن أقوال زياد الرحباني: «كل حياتي كنت علّق أهمية كبيرة عتاريخ صلاحية كل غرض أشتريه، كتير مهم هالشي بالنسبة إلي، بس من فترة بطّلت لأنو لاحظت أنو كل شي عم بشتريه صلاحيتو أبعد بكتير من تاريخ صلاحيتي أنا.. أنا والبلد»، لكن الروائي المصري وحيد الطويلة يرد على شعور زياد بغياب الأمل واليأس من تغيير أي شي بالقول: رحلت لا تملك شيئاً، لكنك تملكنا نحن المنذورون للأحلام وأنت الذي قلت بلسان والدتك السيدة فيروز «أيه في أمل!».
عمران عز الدين: قاص وناقد كوردي