علي المندلاوي، فنان تشكيلي وكاريكاتيريست كوردي معروف بإبداعاته ومساهماته في عالم الفن. بدأ حياته الفنية بالرسم للقصص المصورة (الكوميكس) في بعض مجلات الأطفال العراقية ومن ثم توجه إلى عالم الكاريكاتير للتعبير بلغته البصرية الهزلية الساخرة عن رفضه لكل ما يجري من إخفاق وانحراف وتدمير، ولفضح مواقع الفساد والتجاوزات والخروقات. ولما أدرك أنه أعطى كل ما لديه لفن الكاريكاتير، خلال أكثر من أربعة عقود، وجد أن عليه أن يعود إلى ضفة الرسم الحر بكل أبعاده وتقنياته «لأخوض في بحر لا ضفاف له، وأتنفس هواءً نقياً»، حسب تعبيره. ولأننا في «كوردستان بالعربي» نشعر بأن هذا الفنان المبدع لم يحصل على ما يستحقه من اهتمام إعلامي ورسمي، ارتأينا أن نجري معه هذا الحوار، لعلنا نساهم قليلاً في التعريف به وبمسيرته.
* دعنا نبدأ من القرية الكوردية، إذ إن الكورد يحبون المزاح والغناء والرقص، ينعكس ذلك في طبيعة بعض الطقوس ومنها قره قوز، ملا نصرالدين وبعض الرقصات الفكاهية التي يقوم بها الفلاحون أثناء الحصاد، كيف تجد ذلك!
- أنا ابن القرية الكوردية، ابن الفرح وبهجة الألوان، وترف الطبيعة الغناء وعطاء الأرض الباذخ والهارموني الخلاق بين الأرض والإنسان، بيتنا كان مضيفاً مفتوح القلب نهاره تغريد بلابل وثغاء أغنام وصهيل خيول، وأم تخبز وتحلب الأغنام والأبقار، وتعدنا نحن أولادها الخمسة للذهاب إلى المدرسة، وليل طويل يكون فيه «الملا نصر الدين» بطل الحكايات الهزلية الشهير الذي كنا نطرب لسماع مقالبه من فم الجدة، وأفواه الرواة المتجولين. أما غناء الـ«الهوره» فكانت كلماته وترانيمه الشجية تنطلق من حنجرة إلى حنجرة لأفراد قافلة كانت هي وغيرها ضيوفاً دائمين على بيتنا الكبير.
الفرح سمة الكورد ورقصة الدبكة هي طريقتهم في التعبير عن توقهم إلى السلام الروحي، وفيها تتشابك وتتلاحم أيدي النساء والرجال وتلتصق الاكتاف وتفترق في حلقة تدور وتدور في نشوة وحبور لا يوصفان تسريان في جموع الراقصين. ومثلما يشتهر المصريون بخلق النكتة حتى في أحلك الأوقات، يعرف الكورد بخلقهم لطقوس الفرح ليحاربوا بها عسف الزمان وظلم من يحيطهم من شعوب أهدرت دمهم وحاولت وما تزال، وبلا هوادة، أن تطمس منذ قرون ثقافتهم وتاريخهم وتمسح آمالهم وأحلامهم في الحرية وتحقيق الذات بالموسيقى والغناء تارة، والرقص والهزل والفكاهة تارة أخرى.
وفي رأيي أنه إذا أردنا التوسع والتدقيق في الإجابة عن السؤال، ينبغي إشراك عالم اجتماع مختص في هذه الأمور.
* تتوسد عوالم المندلاوي بين الطفولة وحِدَّة الوعي المتجلية في أعماله. كيف للمندلاوي أن يصيبنا بالدهشة وهو يضع قدماً في الأحلام الطفولية وقدماً في الألغام الكاريكاتورية!
- الشغف بمطبوعات الأطفال حدّ الوله في طفولتي جعلني أتشرب شتى فنون وتقنيات وأساليب الرسم والكتابة للأطفال من كل المشارب الأميركية والأوروبية والروسية والعربية، وما ترجم من حكايات وأساطير الهند والصين. وهذه كلها كانت متوفرة في بغداد، بالإضافة إلى تشبعي بالحكايات والملاحم الكوردية، وسير أبطالها في طفولتي المبكرة في مندلي. حِدّة الوعي التي وصفتني بها مشكوراً جاءت من الارتواء من كل هذه المنابع الثرية التي شحذت موهبة كانت كامنة في ذاتي للإبداع في هذا المجال، والتي لم تكن لدراستي الأكاديمية للرسم والفنون البصرية الأخرى علاقة بها. فكما هو معروف لم يكن في معاهدنا وأكاديمياتنا في العراق أقساماً لدراسة فنون الكرتون والرسوم التوضيحية، والكاريكاتير، ولحد اليوم، على العكس، كنت - وعن سابق إصرار وترصد - ألوي عنق الرسم الأكاديمي الذي كان علينا دراسة أسسه في المعهد بنقل الموديل تمثالاً كان أم إنساناً حياً حرفياً لأحيله إلى رسم كاريكاتيري.
هنا ومن حسن الحظ، كان الأستاذ يغض الطرف عن تصرفي هذا وسط امتعاض زملائي وهو يربت على كتفي ويقول «استمر فهذا التوجه نادر عندنا!». وهنا أيضا كان للشغف دوره في توجهي لرسم الكاريكاتير ولمتابعتي الدقيقة، وأنا لم أزل في مقتبل العمر لكل ما كان يقع في متناول يدي من الصحف والمجلات الضاجة بفن الكاريكاتير المصرية منها والكويتية واللبنانية، وتلك العربية التي كانت تصدر من لندن وباريس، وكذلك مجلات «ماد» الأميركية، و«باريس ماج» الفرنسية، و«ديرشبيغل» و«شتيرن» الألمانيتين.
* وهذا يؤدي بنا إلى السؤال التالي: ما السرّ في قدرتك على المراوغة والتماهي بين الكومكس، القصص المصورة التي فيها تفاصيل كثيرة وطاقتها التعبيرية مفتوحة، وبين الكاريكاتير الذي قد يُختزل ببعض الخطوط؟ فلا شك، أن هناك مقتربات بينهما إلا أنهما ينفصلان كما الشعر والرواية!
- الفنان المعاصر متى ما اكتملت أدواته، فكراً وتقنيات، ورؤى، يستطيع أن يعبر بفنه بشتى الطرق والأساليب، وأن يبتكر الجديد. فهو كبيكاسو، على سبيل المثال، يرسم ويشتغل على الفخار، والحفر، والنحت بكل ما كان يقع تحت يده من مواد، ويصمم ديكور مسرحيات ويكون مبهراً، وفي كل هذه الحقول يكون بإمكانك التعرف على بصمته هو!
الرسم لمطبوعات الأطفال التي بدأت بها مشواري الفني (لوحة غلاف لقصيدة شعر، لقصة، الكومكس) وبأساليب متنوعة ومختلفة بحكم توجه المطبوع إلى مرحلة عمرية معينة ومحددة كان امتيازي «المختلف» الآخر. فداخل خصوصية التوجه للطفل رسماً وكتابة هناك تنوع آخر في التوجه رسماً ولوناً وتفاصيل واختزال وحركة وتقنيات أخرى حسب المرحلة العمرية التي تتوجه إليها المطبوع مجلة كان أم جريدة أم كتاباً.
* العالم يتجه نحو العدمية في كثير من الأحيان، فيما الكاريكاتير يرتب التفاصيل المتباعدة كما الخياط الماهر الذي يرفو قطعة ملابس ثمينة، أين تجد نفسك من هذا الثنائي!
- نعم صحيح، ومؤسف جداً هذا الانحدار إلى العدمية والدمار والانقسام والاستهلاك الخطير للموارد، والإضرار الخطير بالبيئة الذي نرى العالم عليه اليوم. ومنذ نشأة الكاريكاتير وتطور الطباعة والنشر، ومن ثم الإنترنت الذي أدى إلى انتشار دولي لحظي غير مسبوق، أكسبته هذه التطورات شعبية لافتة دعمت نشر رسائل فنانيه النقدية الساخرة في محاولة لرأب الصدع، وكشف العفن، وتحليل الأحداث بلغته البصرية الخاصة الهزلية النقدية الساخرة المضحكة أحياناً، والمرّة الداكنة في أحيان أخرى، لكل ما يجري من إخفاق وانحراف وتدمير، وفي كثير من الأحيان بدون تعليق مكتوب، وهو الذي أدى إلى زيادة تأثيره والإقبال عليه من مختلف الفئات، وفي جميع أنحاء العالم. وأنا بدوري لم أتوانَ، وبكل ما أوتيت من مقدرة وفهم وقوة، عن فضح مواقع الفساد ووضع يدي على التجاوزات والخروقات، وأواجه التخلف محلياً في العراق والعالم بلغة الكاريكاتير في محاولة للإصلاح أراها اليوم يائسة لأن تيار الهدم والتآمر والأطماع أقوى من كل معارضة!
كفاح الأمين: كاتب وصحفي وباحث فوتوغرافي كوردي