المتابع لتجربة مؤيد طيب الشعرية الطويلة الممتدة عبر أكثر من أربعة عقود يكتشف ميله المتزايد - الناتج عن التجربة الروحية وتراكم الخبرة والقراءة المعمقة لمنجزات الأدب الكوردي والعربي والعالمي ناهيك عن التحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية المحلية والعالمية - نحو التأمل الفلسفي والوجودي العميق مع احتفاظه ببساطة تذكرنا بأحلام الطفولة وتساؤلاتها وصورها الملونة.
وعن تطور تجربته الشعرية يقول مؤيد طيب: «لو تأملت دواويني ستجد أن هناك حداً فاصلاً بين ديوانَيّ الأول والثاني وبين دواويني اللاحقة الثالث والرابع والخامس. عندما كتبت المجموعتين الأوليين كنت في العشرينات من عمري وكنت أصب جل اهتمامي على المضمون وعلى طابع المقاومة في شعري كوسيلة في خضم الكفاح».
ويضيف طيب بهذا الصدد أن «المرء لا يملك في مراحل شبابه الأولى تلك التجربة الفنية العميقة، لذلك تراه يمنح المضمون أهمية أكبر، وكان مضمون قصائدي يدور في الغالب حول معاناة الإنسان الكوردي الرازح تحت السلطة الفاشية. لكنك حين تقرأ الدواوين الثلاثة الأخيرة ستلاحظ اتساع التجربة الإنسانية ورحابتها، ولهذا تجد مضامين ومواضيع جديدة»
ابتعد الشاعر عن وطنه ثلاثة عشر عاماً وعاش في المنفى الذي انعكست معاناته على قصائده. «أضف إلى ذلك تعمق تجربتي الحياتية والثقافية، فلم أعد أكتب بالطبع بذلك الأسلوب البسيط. لذلك ستقرأ في السطور وما بينها أموراً جديدة، ورؤى جديدة للشاعر كإنسان يعيش في هذا العالم ويراقب ما حوله من تبدلات في حياته وفي مجتمعه وينظر بعينه الناقدة إلى كثير من المساوئ والسلبيات المحيطة. ما أقصده هو أن الشبيبة تمتاز بانفعالاتها القوية الجامحة لكن تلك الانفعالات تتحول مع تقدم السن إلى تأملات؛ تأملات فلسفية أو صوفية أو دائرة حول معاناة الانسان».
يُذكر أن مؤيد طيب مدافع شرس عن الشعر وقدرته على البقاء، وعن هذا يقول:
«يقال في أحيان كثيرة إن الرواية وغيرها من الأجناس الأدبية قد أزاحت الشعر عن مكانه، لكنني أذهب إلى القول باستحالة اختفاء أي جنس أدبي. الشعر على الخصوص باعتباره أقدم الفنون اللسانية ما زال حياً وقادراً على البقاء».
«فزّاعة»
فزّاعةٌ منسيّةٌ
في حقلٍ مهجورٍ
ما حرثه أحدٌ أو بذره
...
ينتظرُ السرابَ كي يزرعَهُ
ويملأُ ساحته بألوان الورود
...
أسطورةٌ هي ولكن
مِن مِنّا
لم يُصدِّق يوما بأسطورةٍ
من منا لم يضحك مرةً على نفسه
ولم يبكِ عشراً عليها؟!
«شلال من نور»
شلاّلٌ من النور
اقتحم نافذتي
فأشرقت شمسانِ معاً:
واحدةٌ أمام نافذتي
والأخرى على الوسادة.
لم يكن الكرى قد غادر عينيّ
حين غربتا معاً
في فنجان قهوة الصباح
«لوحةٌ على جدارِ قلبي»
كان القمرُ خنجراً فضيّاً
في قبضةِ الليل،
وكان قلبي قُبَّرةً بريّةً
حبيسةَ القفص
وثمة نسماتٌ عِذاب
تمشِّطُ الخصلات
عند البحيرةِ الغافية
وعلى ضفافها
كانت شجرةٌ سكرى
تراقصُ النار.
...
ثلاثون عاماً وهذه اللوحةُ
عالقةٌ على جدارِ قلبي
كنقشٍ على حجر.
شابَ الجدارُ
بهتت ألوانه
وامّحى وجهه
بَيدَ أنّ اللوحةَ لمّا تزل
طفلاً رضيعاً
وعلى ضفاف البحيرة الغافية
لم تزل سكري
تلكم الشجرة،
لم تزل ترقص وترقص
ممسكةً يدَ النار
«بائعُ الشاي»
كادحاً كان:
في الليل يصنع الأطفال
ويصنع الشاي في النهار
يبيعه ويحدّث نفسه :
يا للعجب
مهما وضعتُ سُكّرا
لا يصير الشاي
حلواً مثل أطفالي!
«قابيل والغراب»
مرة أخرى
ها هي جثة هابيل
ملقاة بين أقدام أخيه.
مرة أخرى
ينتظر قابيلُ الغراب.
بيد أن الطائر
يرفع وجهه ويقول:
لا لن ألطخ منقاري من جديد
بدمِ غرابٍ آخر،
ولن أحفر قبراً ثانياً
فدع رائحة جُرمكَ
تصعدُ لسابعِ سماء
دع الذي هناك
يرى ما فعلتَ وما فعَل
ودعه يرى
لماذا لم يسجدْ إبليس
أمام أبيك!