شارع إسكان
شارع إسكان
September 25, 2025

لا أتحيّر حين أزور أربيل. لي سكن ثابت في فندق «ألتون سرايا» وسط الشارع الأكثر ازدحاماً وحيوية، «شارع إسكان». أنام مع ضجّة الشارع، وأصحو على  فجر مشحون بالروائح والأصوات. الفندق باسمه الباذخ يمنحني ثلاث فوائد:

- سعر يناسب الطبقة الوسطى 

- لقاء مع المحاربين القدامى 

- مشاهد الحياة الضاجّة المتناقضة.

في قاعة الفطور، أو في صالة الاستقبال، أرى خلف لبدة الشعر الأبيض وتجاعيد السنين وجهاً أعرفه ويصعب عليّ أن أسمّيه. أحفر كما المنقب لأرى بعين ذاكرتي شابّاً كان محارباً معي في الجبل. نتقارب دهشة مقابل دهشة، و نصرخ معاً اسماً مقابل اسم. نتعانق بحرارة ثم تتدفق الذكريات. نحن ما زلنا هناك. شبابنا المزدحم بالأمكنة والوقائع الغريبة ما تزال تسكن أحاديثنا وأحلامنا وكوابيسنا. نلتقي، نشعل ذكرياتنا حول النار ثم نفترق إلى منافينا المتباعدة. لا ألتقي رفاق السلاح إلا في هذا الفندق.

مع خطوتي الأولى خارج الفندق، أصير فرداً ضائعاً في حركة الناس داخل السوق. أنا المتفرج الوحيد، والبقية في حمأة العمل. أتفرج على الكبابجي وهو يسعّر النار أفقياً على الفحم وقد استحال فرشةً من العقيق الأحمر، بائع الكوارع وهو يسلخ رأس خروف مذبوح، صبي يغسل مدخل المطعم شغوفاً بتدفق الماء من بين يديه، بائع المكسرات يقلّب سطح بضاعته، سائق التاكسي بالكاد يجد مجالاً ليمرّ وهو على عجل، صاحب المقهى وهو يهيئ الوجاغ / المنقل لشاي زبائنه..

كل واحد يؤدي مهمته بدربة تجمع الهواية والحرفة. أنا الغشيم الوحيد الذي لا يجيد مهنة غير النظر والكتابة، ولم أكن يوماً معجباً بما أنجزت. أتجوّل تائهاً بلا هدف وتتلفت عيناي إلى كل الاتجاهات. كل لون صارخ يسحبني إليه وكل صوت يناديني إليه، وكل وجه يتآخى مع وجهي. أحب هذا الخليط من العرب والكورد والعمال الأجانب. ينسون قومياتهم وأديانهم وهم ينتظرون – بلهفة - لعبة كرة قدم تجري في بلاد بعيدة، مع ذلك ينقسمون إلى مشجعين لبرشلونة أو ريال مدريد. نسيت شيخوختي وأنا بينهم، فأصرخ كلما اقتربت الكرة من الهدف: «مع من أنا؟».

ما من شيء يتكرر في هذا السوق، فالمنافسة تعلّم الكسبة فن التفرد.

هنا رأيت إعلاناً غريباً عن أصالة السلعة. رأس خروف مذبوح مع ذلك يمضغ باقة من الكرفس، وحلاق يرينا كيف صنع تسريحة اللاعب البرتغالي كريستيانو رونالدو، هنا في شارع إسكان. لا يصدقه أحد، لكن كل شيء يبدو معقولاً وسط فوضى السوق. لا يتملقني البائع ولا يحاول غوايتي بجودة بضاعته. إنها معروضة أمامي كما هي، وخلفي زبون آخر ينتظر أن أنزاح ليأخذ مكاني في الدور.

الزمان هنا متصل بلا انقطاع. ما يفصل الليل عن النهار خط من ضباب. أصحو من صرخات حادة. يا إلهي إنها الثالثة فجراً، مع ذلك ما يزال جُلّاس المقهى في أوج حماسهم خلال تنافسهم في لعبة نرد!

في منفاي الأوروبي، يبدو كل شيء خاضعاً لهندسة المكان وحكم الوقت والنظام المعمم. الكل يخضع لنظام الضريبة والغرامة وينتظموا وفقها.

المكان في «شارع إسكان» هلاميّ خاضع لمسار الحركة، يتكيّف وفقها. والسلطة هنا غائبة، ما ينظم هذه الفوضى هو رغبة الناس في العيش بسلام؛ كيف أمارس حرفتي ووجودي من دون أن أصطدم بوجود جاري ومنافسي. هناك معرفة أكيدة بحيّزي وحيز الآخر. أسأل صاحب الدكان إن كان في السوق من لديه جهاز استنساخ؟

- «طبعاً» يجيبني. ويمسك كتفي ويريني بأصبعه:

- في المنعطف الضيق بعد الدكان الرابع.

الزبائن الثابتون يعرفون بالعادة مقهاهم اليومي، وأين يأكلون الكباب، وفي أي مكان ينامون. هذا الشارع هو الساحة الأليفة لحياتهم. تزمع الحكومة إعادة بناء وتنظيم الشارع.. هذه الإشاعة تقلقني. دعوه كما هو! فالفوضي سر جماله وحريته.

 


زهير الجزائري: كاتب وروائي عراقي




X
Copyright ©2024 kurdistanbilarabi.com. All rights reserved