كان اختراع التلغراف أكبر ثورة اتصالات في العالم. وما كل ما نشهده اليوم من وسائل تواصل إلا امتداداً لهذا الاختراع، وقد حاز صمويل مورس على براءة اختراع التلغراف عام 1847 في إسطنبول من السلطان العثماني عبد المجيد الأول، مع أن تجارب هذا الاختراع سبقت هذا التاريخ بسنين.
وقد ظهرت للكيانات السياسية حينذاك أهمية هذا الاختراع الذي صار ينقل الأخبار والقرارات بلحظتها تقريباً بعد أن كانت تستغرق أياماً وأسابيع، وكانت الدولة العثمانية من هذه الكيانات التي رأت ضرورة استغلال هذه الخدمة، وبخاصة إذا رُوعي في الاعتبار التوسع الشاسع لهذه السلطنة الممتدة على ثلاث قارات حينها.
الفكرة والتحديات
بيد أن هذه الخدمة كانت تحتاج تمويلاً لا يستهان به، فإضافة إلى ما يتبع ذلك من ضرورة توفير مكاتب ومبان لهذه الخدمة وتأمين موظفين يقومون بتفعيلها وصيانتها وإلى فنيين يقومون بمهام التركيب والتصليح، وأيضاً مد الخطوط على رقع جغرافية طويلة، كان هناك أهم من ذلك كله ألا وهو تأمين حمايتها وحراستها من قطاع الطرق الذين كانوا يجدون في تلك العواميد الخشبية القوية والأسلاك المتينة المنتشرة في البراري من دون حراسة كافية، كنزاً سائباً يحتاجون إليها في تسيير أمورهم المعاشية، وبخاصة من أبناء القبائل الرحل من الكورد والعرب وغيرهم، والذين ربما كانوا يعملون على سرقتها لعدم معرفتهم بأهميتها بدايةً، ثم كانت معرفتهم بأهميتها في استخدامها ضد تحركاتهم دافعاً أكبر في تعطيلها، فما بالك بالاستفادة منها.
وتشير وثائق كثيرة إلى التكلفة الباهظة للصيانة أو الحراسة، أو تلك الوثائق التي نقلت أخباراً عن تعرضها للسلب، كما أن هناك أيضاً وثائق تتحدث عن ضرورة توفير مكاتب لها داخل المدن، أو عن الحاجة إلى ترميمها وصيانتها.
نداء من الدولة واستجابة من أربيل
عرضت الدولة العثمانية على بعض المناطق والتجمعات السكنية المساهمة بالتبرع لتفعيل هذه الخدمة التي لم تكن فائدتها للسكان مثل إيصال شكاواهم والمساهمة في حمايتهم وتوفير الأمن لهم ضد التجاوزات أقل أهمية من فائدتها لتيسير أمور الدولة، فكانت أربيل من المدن السباقة إلى الاستجابة من خلال تبني حملة تبرع لإنشاء مركز بريدي فوري في مدينتهم كانت تسمى «مكتب البرقيات أو التلغراف». فكان لهم ذلك حيث مُدّ خط تلغراف منها إلى أقرب خط رئيس. وقد سبقت بذلك حتى مركز الولاية، الموصل، حيث كانت ولاية الموصل ترسل برقياتها، وتستقبلها من خلال مركز بريد أربيل ومثلها الكثير من الحواضر المحيطة بها.
إن أقدم وثيقة تتحدث عن قرار تفعيل هذه الخدمة في أربيل كانت بتاريخ العاشر من تشرين الأول / أكتوبر عام 1868، وفيه قرار من الصدارة (مجلس الوزراء) إلى نظارة الأمور النافعة (وزارة الأشغال العامة)، يقضي بتنفيذ أمر تمديد خط تلغراف إلى أربيل حيث ترسّم بمساهمات وتبرعات الأهالي.
أربيل مركز التلغراف في المنطقة
تشير وثيقة عثمانية إلى أنه كان في مركز أربيل موظف مقيم لمراسلات ولاية الموصل، كما تشير وثائق أخرى إلى إرسال وثائق رسمية وأهلية عائدة لمناطق أخرى محيطة بأربيل من مركز تلغرافها مثل كركوك وراوندوز وكويسنجق فضلاً عن مركز الولاية الموصل، إذ كانت أربيل موصولة بالعاصمة إسطنبول من خلال مركز ديار بكر، وذلك قبل أن يُنْشَأ مركز بريد في الموصل، وقبل تمديد خطوط تلغراف من أربيل إلى هذه المناطق حيث تبين الوثائق تمديد خطوط تلغراف في فترات متفرقة بين أربيل وبين كل من مخمور وشقلاوة وكركوك وألتون كوبري (پردێ) وغيرها.
ويبدو أن مركز تلغراف أربيل كان موظفوه يقومون بالعمل بكفاءة، إذ تبين إحدى الوثائق العثمانية بتاريخ 1907 ترفيع موظف التلغراف في أربيل أحمد عزت أفندي إلى رتبة أعلى لحسن خدماته. كما تظهر أسماء موظفين آخرين في مركز تلغراف أربيل من خلال ما يتعلق برواتبهم أو تقاعدهم.
نماذج من البرقيات
تنوعت أشكال البرقيات المتبادلة. فمنها برقيات رسمية من وإلى العاصمة، مثل برقيات التعيينات الإدارية أو الأوامر العسكرية، أو تلك المتعلقة بتحقيق الأمن وضبط الحدود، أما البرقيات المتعلقة بالخدمات التعليمية والأمور الصحية، فكان لها نصيب الأسد، ومنها برقيات افتتاح المدارس وتعيين المدرسين وإرسال المستلزمات المدرسية إلى تلك المتعلقة بنتائج الاختبارات، وكذلك أخبار حفل افتتاح المدارس الجديدة وحتى احتفالات نهاية العام الدراسي. أما من الناحية الصحية، فكانت هناك برقيات انتشار بعض الأوبئة كالكوليرا وسبل الوقاية منها وأوامر الحظر الصحي والإحصاءات اليومية للمصابين والمتعافين، أو تلك المتعلقة بإرسال الأطباء وتعيينهم. ولا يخفى أن أوامر صرف الرواتب ومكافآت التقاعد لمعظم الوظائف كانت تنتقل عن طريق البرقيات.
ومن أهم البرقيات المتبادلة بين مركز أربيل وبين العاصمة تلك المتعلقة بالتحركات الوطنية الكوردية، ومنها وثائق عن برقيات تعود إلى عام 1914 تتعلق بتحركات البارزانيين، وأخرى تتحدث عن لقاء الشيخ عبد السلام البارزاني ببعض الدبلوماسيين الأجانب عام 1909، وبرقية تعود إلى عام 1881 تتحدث عن تحركات الشيخ عبيد الله النهري وإرسال من يمثله إلى أربيل.
ومن البرقيات المهمة تلك التي تحدثت عن تحركات بعض السياح والآثاريين من أوروبا وضرورة مراقبة تحركاتهم، وكذلك بعض البرقيات التي تحدثت عن بداية دخول الإنجليز إلى المدينة.
أما الأهالي، فكانت لهم مساحة وافرة في هذه البرقيات، فمنها برقيات التهنئة كتهنئة رئيس بلدية أربيل إلى السلطان بمناسبة جلوسه على العرش عام 1910، أو برقيات تتضمن شكاوى ضد هيئات حكومية وموظفين ومسؤولين بعضهم برتب عالية، أو بشأن الاعتراض على بعض الإجراءات الحكومية، بل إن هناك برقيات تطالب بعزل بعض المسؤولين والموظفين.
وعلى الطرف المقابل نجد بعض البرقيات تؤيد وتبارك بعض التعيينات، وبرقيات تشكر أداء بعض المسؤولين، وأخرى تعترض على عزل بعضهم الآخر مطالباً بإعادتهم إلى الوظيفة.
من هذه البرقيات مجموعة برقيات عام 1917 من وجهاء وزعماء عشائر ومجمل أهالي أربيل يعترضون فيه على عزل مسؤول، وبرقية تتضمن اعتراضات مجموعة من فلاحي أربيل على قانون البدل العسكري والتأجيل.
والجدير بالاهتمام حضور المرأة الأربيلية في هذه البرقيات، فمن بينها برقية شكوى صادرة من سيدة في أربيل عام 1912 وكانت نتيجتها تسريح جاويش قام مع قواته بنهب إحدى القرى، وبرقية من امرأة من قرية بارزين التابعة لأربيل تتضمن شكوى ضد رئيس البلدية وموظف رسوم الأغنام عام 1903، ويبدو أن رئيس البلدية آنذاك كثرت في حقه الشكاوى، ففي العام نفسه نجد برقيات شكوى ضده من مجموعة من رؤساء العشائر.
ومن البرقيات المثيرة للانتباه برقية تعود إلى عام 1883 أرسلها إلى الصدارة العظمى مسجونٌ منذ سنتين لاتهامه بجريمة لم تثبت عليه.
ولعل من أطرف البرقيات تلك التي أرسلها رجلٌ من أهالي أربيل إلى قصر يلدز عام 1893 يطلب فيها مقابلة السلطان لبث شكواه من الحياة ومعاناته مع من غدر به ومحاولته الانتحار.
لقد كانت تجربة أربيل ومساهمة أهاليها في تبني خدمة التلغراف غير المسبوقة، دليلاً على وعي شامل وبصيرة حضارية في ذلك التاريخ المبكر، كما كانت علامة على مدى إدراكهم لأهمية التواصل السريع وضرورة السبق في استخدام التقنيات الحديثة آنذاك. فكانت مبادرة الدولة ودعم الأهالي سبباً في ربط أربيل بالعالم الخارجي آنياً لتصبح أربيل منذ ذلك الوقت الغابر مدينة متصلة بالعالم الخارجي؛ مما يجعلها في مصاف الحواضر المتقدمة منذ ذلك الحين.
أحمد معاذ يعقوب أوغلو: كاتب وباحث يعمل في مؤسسة فامر للدراسات والأرشيف العثماني